د. عبدالحق عزوزي
سعدت بوجودي في الأيام الماضية في مدينة الرياض، حيث شاركت في الدورة التدريبية التي نظمها مركز البحوث والتواصل المعرفي حول استشراف المستقبل والتعامل مع الأزمات. وصادف تواجدي ذكرى خالدة، وهي ذكرى اليوم الوطني الـ88، فاحتلت المملكة العربية السعودية بحلة بهيجة يفوح شذاها من جنبات السبل وهامات الآكام وذرات تراب هذا البلد الذي اصطفاه الله بأفضل البقاع فوق الأرض، ففاض بخير وفير وقام على أصول وثوابت راسخة. وإعلان المملكة عن رؤية 2030 والتي اشتملت في مجملها على تحويل صندوق الاسثمارات العامة إلى صندوق سيادي والحد من اعتماد الإيرادات على العائدات النفطية، هي دليل على خطة إستراتيجية طموحة لأكبر حدث اقتصادي واجتماعي في تاريخ المملكة العربية السعودية، كما أن إنشاء هذا الصندوق السيادي العملاق والذي تتعدى قيمته أكثر من 2 تريليون دولار هو قادر على شراء أكبر أربع شركات عالمية مثل (ابل) و(مايكروسوفت) و(جوجل) و(بيركاشير هاثاواي)، مما يدل على قدرة المملكة الاستثمارية وتوجهها بقوة نحو تنويع اقتصادها، وخاصة ما يتعلق بالتعدين والمعادن والاستثمارات المتنوعة، وإطلاق صناعات ووظائف متنوعة.
شاركت إذن في دورة تكوينية عن استشراف المستقبل تنبه إلى قيمتها منذ زمن البحاث ورجل الفكر والمبادئ والأصول ونكران الذات والعمل الدؤوب وأستاذ الأجيال الدكتور يحيى محمود بن جنيد، والذي حقق بفضل جهوده وفيرًا من الإنجازات الثقافية والفكرية والحضارية والعلمية والتعليمية والإنسانية تؤود بحمله وزارات ومؤسسات في عالم اليوم؛ وقد جعل من هذا المركز في ظرف قياسي منارة بحثية وعلمية وتكوينية واستشرافية بامتياز، وهو يخوض اليوم في مواضيع علمية دقيقة كعلم استشراف المستقبل والإستراتيجية لبناء أجيال قادرة على مواجهة كل التحديات في الحاضر والمستقبل.... وكم سعدت عندما وجدت نفسي مع متدربين ذوي كفاءات عالية ويملكون حب الاطلاع وتوسيع وصقل المهارات؛ وهذا اللقاء يذكرنا بالاجتماعات الإستراتيجية والهادفة التي تعقدها مراكز مقتدرة كتشاتام هاوس Chatham House)) المعروفة بتبادل الخبرات والأفكار والتكوين الحقيقي الهادف الذي عليه مصلحة الشعوب والأوطان.
وقد أعطيت محاضرات تكوينية في مواضيع من قبيل: تفعيل الدراسات الإستراتيجية في الوطن العربي: نظرة مستقبلية؛ صوغ الدراسات الاستشرافية: رؤية واقعية؛ مدارس الدراسات المستقبلية وأنواع السناريوهات الممكنة؛ طبيقات السيناريوهات على مستقبل القوة الأمريكية؛ التكنولوجيا ومستقبل الطاقة؛ الأمن الجماعي وبناء المؤسسات؛ وطبعًا هاته الدورة التكوينية ساهم في تأطيرها أيضًا متخصصون كبار من تايوان وروسيا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انفتاح المركز وجمعه لذوي الخبرات العالية من السعودية والعالم لتحقيق ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع.......
بالنسبة إلى الدراسات الاستشرافية المستقبلية، فالباحث في هذا المجال ينطلق من مفهوم العلم ومن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الباحث في العلوم الاجتماعية، بمعنى أن تكون له القدرة على فهم الظاهرة الاجتماعية وتحليلها تحليلاً علمياً قبل أن يسبر أغوار المستقبل، معتمداً في ذلك على مرتكزات أساسية:
1) التحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن البيئي - صياغة قوة دفاعية ردعية- التأثير في مجريات الأحداث الاستباقية دون الدخول في الحروب - ضمان استقرار التماسك الاجتماعي - تفادي الأزمات الاقتصادية.
2) تحديد البدائل المستقبلية انطلاقاً من الحاضر (وبالضبط انطلاقاً من نتائج الباحثين في العلوم الاجتماعية) لتأخذ الطابع النظري والمثالي.
3) اختيار بديل من البدائل المستقبلية كحلّ ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة أو لتحسين حالة من الحالات أو البدء في التأثير في مجريات الأحداث والتي لولاها لوصل المجتمع إلى حالة أسوأ.
4) يكون الهدف من البحث المستقبلي الإسهام في تطور الإنسانية وخدمة المجتمع، تماماً كما هو شأن العلوم الاجتماعية، إلا أن الهدف الإضافي في هذا الجانب موضوع البحث يتمثل في تفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول لعيش أرغد.
وخلاصة القول فإن الدراسات الاستشرافية المستقبلية بوصفها آلية للتخطيط تهدف أولاً إلى صياغة براديغم وإطار فكري لتحديد طبيعة المشكلات والتحديات التي تواجه البشرية أو التطور الإنساني في المستقبل، وثانياً إلى توجيه قرارات القادة السياسيين ووضع حلول وبدائل مستقبلية، ويتم ذلك خلال استعمال الكثير من التقنيات المستقبلية لترشيد عملية التخطيط انطلاقاً من تحديد المشكلة إلى غاية مرحلة التنفيذ والتقييم كتقنية السيناريوهات وتقنية دلفي، وتقنية التنبؤ وتقنية المحاكاة وتقنية نظرية المباراة وبحوث العمليات ونظم المعلومات، وللحديث بقية.