«ملامح هادئة وبسيطة، ثقة عالية بالنفس، مخارج كلمات واضحة، مقدرة كبيرة على تحويل الأرقام إلى معلومات يفهمها المتخصص والعادي، ثبات انفعالي تام أمام الكاميرات، استيعاب كامل للأسئلة المطروحة رغم كثرتها، وإجابات حاضرة عنها».. هذه بعض سمات المتحدث الإعلامي لوزارة الصحة، الدكتور محمد العبد العالي.
اسم أصبح مرتبطًا بذاكرة كل سعودي؛ فهو يطل علينا يوميًّا ليحدثنا عن آخر التطورات بشأن فيروس كورونا المستجد، يخبرنا بالموقف الوبائي كاملاً، يوضح لنا بالإنفوجراف والوسائل البيانية الأخرى طرق انتشار الفيروس، وآلية السيطرة عليه، لكنه لا ينسى دائمًا أن يختتم تصريحاته وكلامه بتحذير من خطورة الاستهانة بالفيروس وتجاهل الأساليب الوقائية.
كيف أصبح «العبد العالي» بين عشية وضحاها محور اهتمام السعوديين؟ ولماذا يشعر دائمًا المستمع إلى بيانه اليومي (بعد الظهر) بأن الأمل في القضاء على فيروس كورونا المستجد لا يزال قائمًا بقوة؟ وكيف استطاع بأسلوبه «السهل الممتنع» أن يصبح نجم الفضائيات والوسائل الإعلامية بلا منازع؟ وما هو تاريخه العلمي والمهني الذي أهّله لذلك؟ وكيف استطاع الجمع بين «العلم والأدب»؟ هنا سنجد إجابة عن هذه الأسئلة.
خطف الأنظار بلغته البسيطة
وخاطب مختلف الشرائح
صباح كل يوم ينتظر أغلب السعوديين بشغف المؤتمر الصحفي الذي يعلن فيه «العبد العالي» تفاصيل الحالة الوبائية. الكاميرات جميعها مسلطة عليه في هذه اللحظة، ويفرض الحظر الصحي ومنع التجول على المواطنين البقاء في المنزل؛ لذا فإن نِسب المشاهدة عالية ومرتفعة جدًّا، ومع ذلك يظهر المتحدث الرسمي واثقًا من نفسه جدًّا رغم أن هناك من يتصبب عرقًا إذا وقف موقفه.
استطاع خطف الأنظار وجذبها إليه، خاصة أنه يتحدث بلغة بسيطة جدًّا، ودائمًا ما يُدخل بعض الكلمات في خطابه؛ فتُشعر المستمع بأنه يتلقى معلومات من إنسان حريص جدًّا على صحته. يخاطب المستمعين كما يفعل الأب مع أبنائه، الذي يخشى عليهم من خطر الفيروس سريع الانتشار، يحثهم على الابتعاد عن التجمعات، وعلى أخذ الحيطة والحذر، وعدم النزول إلى الشارع إلا في حالات الضرورة القصوى، وإذا تطلب الأمر ذلك فيجب ارتداء كمامة، والابتعاد مسافة مترين على الأقل عن أقرب شخص.
هنا نحن نتحدث عن الأسباب التي جعلته محور حديث المواطنين يوميًّا؛ فإلقاء بيان مكتوب ليس أمرًا شاقًّا، ولكن طريقة العرض والكاريزما والبساطة في التناول جميعها أمور صنعت منه بطل المرحلة بلا منازع، وجعلته يحظى بدعم غالبية شرائح المواطنين، وأصبح المواطن السعودي على موعد يومي يرى فيه إطلالة «العبد لله»، صاحب الملامح السعودية الأصيلة، ويتوسم فيه خيرًا لما هو قادم.
ملامحه الهادئة.. أمل المتخوفين
من «مستقبل مظلم»
ورغم التحذير الدائم من خطورة الفيروس إلا أن الأمل والطمأنينة يظهران على ملامح وجهه دائمًا، خاصة حين يدعم حديثه بتجارب دول أخرى، وتأكيده باستمرار أن المملكة تسير بخطى ثابتة في مواجهة الفيروس والقضاء عليه؛ فالمواطن البسيط ينظر إلى وجود حالات مصابة أو ازدياد نسبة العدوى على أنها مؤشر خطير، لكن «العبد الله» يستشعر خطورة «الحرب النفسية والمعنوية» سريعًا؛ فيظهر في فيديو توضيحي؛ ليشرح للمواطنين ويثلج صدورهم بأن هناك مقاييس أخرى يتم الرجوع إليها.
يحول المعلومة الطبية المعقدة إلى طريقة يسهل على العقل غير المتخصص استيعابها؛ فيشير إلى معدل قياس سرعة الأوبئة العالمية «R0»، ويقول للمواطنين إنه كلما قل الرقم أمام هذا المؤشر فإن الأمور ستصبح أفضل، ويؤكد أن هذا الرقم في المملكة يقترب من 1 وهو معدل تنشده معظم الدول؛ لذا فإنه تم السماح بعودة الحياة إلى طبيعتها وإنهاء منع التجول في معظم مناطق المملكة.
ويمتلك «العبد العالي» موهبة فريدة، وأسلوبًا سهلاً ممتنعًا في الوقت نفسه؛ لذا فإن معظم الفضائيات والصحف تفضل إجراء حديث معه، ليس لكونه متحدثًا إعلاميًّا باسم وزارة الصحة، وإنما لأنه سيعطي المشاهد أو القارئ ما يحتاج إليه في إيجاز. وهذا الأمر يأخذنا إلى نقطة أخرى، هي قدرته «الأدبية والتعبيرية»؛ فنادرًا ما يصادفنا طبيب مفوه، خاصة أن الأطباء والعلماء عادة ما ينعزلون ذاتيًّا بحكم التفكير والتأمل، فإذا جمع الشخص بين هذه الصفات واللباقة والقدرة على المواجهة فإننا أمام شخصية تستحق الوقوف أمامها.
نشاطه المستمر وظهوره المتكرر يدحضان الشائعات في مهدها
أسلوب «العبد العالي» وطريقته في التناول كانا سببًا أساسيًّا في دحض الشائعات في مهدها؛ فالرجل دؤوب، ونشيط، وحريص على التواصل الدوري مع وسائل الإعلام لتوضيح الحقائق، بل إنه في أوقات كثيرة لا ينتظر الاتصال به للحصول على معلومة، ويظهر في فيديوهات توضيحية عديدة للرد على أسئلة شائعة ومثارة إيمانًا منه بأن الشائعات ربما تهدم أوطانًا، والوقت الذي نعيشه حاليًا يتطلب مزيدًا من الجهد لتوضيح الحقائق. وإذا قارنا المملكة بغيرها من الدول سنجد أن متحدث الصحة هو الأكثر نشاطًا، ووقته كله مخصص للرد على الاستفسارات.
أيضًا من بين الأسباب التي جعلته قريبًا من المواطنين هو الاعتراف بالخطأ أو التقصير إن وقع؛ فهو لا يتلون ولا يحاول الهروب من الأخطاء، بل يواجهها بكل شجاعة، ودون خوف. فإذا كنا نتحدث عن أرقام وحقائق فيعلنها صراحة، وإذا تفشى الفيروس في منطقة أو مدينة يتحدث عن ذلك، وإذا تعلق الأمر بمسؤول نشر شائعة أو حتى معلومة صحيحة قبل الرجوع إليه فهو لا يتوانى عن تحويله للتحقيق؛ فالأمر ليس مزحة؛ فهو يتعلق بحياة الملايين.
مشواره العلمي والمهني مليء بالتحديات
واجه «العبد العالي»، ابن مدينة الأحساء، ظروفًا صعبة في بداية حياته ومشواره العلمي والمهني، وحصل على البكالوريوس في تخصص الطب والجراحة العامة من كلية الطب بجامعة الملك فيصل في الدمام، وفي عام 2004 حصل على الماجستير في الصحة العامة من جامعة مانشستر البريطانية، وتقلد العديد من المناصب؛ فكان مديرًا للشؤون الصحية في منطقة جازان، وأدار الشؤون الصحية في مسقط رأسه بالأحساء إلى جانب إدارته مستشفى الهفوف، وتم تعيينه العام الماضي متحدثًا باسم وزارة الصحة إضافة إلى منصب مساعد وزير الصحة.
وفي عام 2009 حصل «العبد العالي» على زمالة علم أمراض ونقل الدم من جامعة الملك سعود، وأيضًا حصل على الزمالة الدولية للكلية الأمريكية، وهي خاصة بأطباء علم الأمراض، إضافة إلى حصوله على جائزة أفضل طبيب زمالة لبرنامج علم الأمراض.
أعاد الأضواء لمنصب المتحدث الإعلامي
مشوار علمي وبحثي طويل، وتحدٍّ للصعوبات وصولاً إلى منصب رفيع، أهّله لذلك حرصه على تقاليد «أهل البلد»؛ فسمته البسيط، وزيه الشعبي غير المتكلف، ووجهه الذي يبدو عليه من الوهلة الأولى وكأنه يحمل «همّ الوطن» بمفرده، كل ذلك أهّله إلى أن يصبح رجل المرحلة الحالية؛ فالحقيقة أن كورونا لم يفرضه علينا، وإنما استطاع الرجل أن يفرض نفسه بقوة، وأن يكون أملاً للكثيرين في حرب نفسية ومعنوية أكثر من كونها حربًا طبية.
ربما يغيّر «العبد العالي» النظرة إلى المتحدث الرسمي في الجهات الحكومية مستقبلاً، ليس فقط في المملكة وإنما في الوطن العربي كله؛ لأنه أثبت بجدارة أن المتحدث الإعلامي يجب أن يكون من أهل البيت؛ لأنه سيكون مدركًا كل ما يدور داخله، وليس مرددًا فقط لمعلومات مكتوبة؛ فالذي يتحدث عن الطب لا بد أن يكون طبيبًا دارسًا أولاً قبل أن يكون إعلاميًّا، وكذلك من يتحدث عن الهندسة أو التجارة أو غيرها من المجالات.. وأرى أن هذه التجربة ستكون نقلة مهمة في العلاقة ما بين الإعلام وشتى مجالات الحياة.