عبدالوهاب الفايز
ربَّما تتذكرون أننا تناولنا هنا ضرورة التوجه إلى بحث الآليات والمسارات المناسبة لرفع كفاءة القطاع الحكومي عبر ترشيد النفقات ورفع كفاءة تنمية جمع الإيرادات الحكومية غير النفطية، والنظر إلى أهمية دمج الأجهزة والهيئات التي تتقاطع في المهام والصلاحيات، وطرحنا المقترح بتحويل وزارة الاقتصاد والتخطيط إلى وزارة لـ(التنمية الإدارية). كل هذه تصب في هدف واحد وهو: تجديد حيوية القطاع العام.
هذا الموضوع، أي تجديد حيوية القطاع العام قد يتحقق عبر (مشروعات القطاع الثالث)، بدلاً من التخصيص. وهذا (توجه فكري) يضع الإطار العام النظري الذي يقود جهود التطوير والتحديث للقطاع العام لكي يقوم بدوره الحيوي في مكون الدولة. المهتمون بالفكر الاقتصادي والاجتماعي، أو (المنظور الإنساني في علم الاقتصاد) أقلقهم بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008 مستقبل الاقتصاد العالمي الذي أصبحت إدارته الكلية وأدواته في أيدي أسواق المال، حيث تغيرت التوجهات الاستثمارية وتبدلت المقاييس، فالنقود أصبحت تولِّد النقود، أي رؤوس الأموال تُدوَّر في أسواق المال بدلاً من تدويرها في الاقتصاد عبر تنمية المشاريع والخدمات.
تتضح الآن بقوة مؤشرات الآثار المدمرة المترتبة على عقيدة النمو المستدام. أصبح (النمو المالي) وليس (النمو الاقتصادي) هو أداة قياس الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، والآن نرى تضخم أسعار شركات في الأسهم، محليًا وعالميًا، رغم أدائها السيئ تشغيليًا، فالأموال اتجهت إلى المضاربات والكسب السريع، فلا أحد الآن يريد الكسب الطبيعي الذي يأتي من تنمية الثروات عبر الإبداع والصبر وتقديم المنتجات والخدمات التي تنفع الناس والأرض. ما يجري في عالمنا تدمير لمستقبل البشرية وتدمير للأرض!
هذا الخوف من التبدل الخطير الذي نراه في توجهات وأدبيات عقيدة النظام الرأسمالي العالمي لم يكن الأول. الاقتصادي السويسري سيسموندي، المعجب والمتحمس والمناصر لأفكار آدم سميث رأى كيف أدت التطبيقات الأولى للرأسمالية في فرنسا وبريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى نتائج كارثية، (فالطبيعة البشرية برزت نزعتها إلى الثراء السريع)، فقد ظهرت حالات الفقر وانعدام الضمان الاجتماعي وتوسع تراكم الثروات.
هذه المخاوف تتجدد الآن بقوة، والأهم أنها غير محدودة بمنظري الاشتراكية العلمية. آخر من طرحها البليونير الأمريكى (رأي داليو) صاحب الشركة الاستثمارية العملاقه، برج واتر، الذي يرى أن الأزمات المالية المتلاحقة تحول الآن إدارة الاقتصاد ليكون بأيدي البنوك المركزية، وهذا سوف يوجد مشكلات رئيسة للاقتصاد العالمي قد لا تحل بالسياسات النقدية التي تفقد تأثيرها، فالوضع القائم أوجد فجوة في الثروات عبر اتساع الهوة بين الفقر والغنى، وفجوة في القيمة التي تراها الناس للمال، وفجوة في الإدارة السياسية (تغليب الحمائية والوطنية المتطرفة).
هذه المخاوف من سيطرة النزعة السريعة لتوليد الأموال وبناء الثروات واستخدم أسواق المال لهذا الغرض هو الذي يجدد المخاوف من التوسع في التخصيص للمشروعات العامة وإسناد الخدمات الحيوية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. المسار الأفضل الذي يحمي مقومات الاستقرار هو التوجه الذكي الجاد إلى (دعم القطاع الخيري) ليقوم بدوره الحيوي لإدارة وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات الإنسانية والاجتماعية، والتنمية الريفية وحماية البيئة، وربما غيرها.هذه المجالات ذات أثر مباشر على حيوية الدولة، لأن آثارها الإيجابية أو السلبية تتعدى من جيل لآخر، لذا التوسع في تخصيصها يحتاج إلى العناية الدقيقة. الذي يحمي المصالح العليا ويقلل المخاطر ويحمي سيادة الدولة واستمرار كفاءة إدارة الاقتصاد ويحمي المجتمع من عبث وتخريب أسواق المال هو التوجه إلى تجديد حيوية القطاع العام عبر تمكين وبناء القطاع الثالث وإشراكه في إدارة وتقديم الخدمات الحساسة للاستقرار والرفاه الاجتماعي، وهذا سيكون موضحاً في مقال قادم.
هذا الاتجاه الفكري الجديد لتجديد حيوية القطاع العام، بدا باستحياء نهاية القرن الميلادي الماضي، وأزمة كورونا قدمت له القوة الدافعة لكي يبدأ اختراق المنظومة الفكرية المادية الغربية، وهذه من حسنات الجائحة!