د. محمد بن عبدالله السلومي
رموز العطاء الخيري تاج على رؤوس عامة الناس وخاصتهم في كل زمان ومكان، سواء كان هذا العطاء التطوعي علمياً معرفياً، أو إسهاماً بتبرع مالي أو عيني أو ما شابهه، ومن العطاء الكبير عطاء الشفاعات الخيرية بالجاه والنفس والوقت في نفع الآخرين كما ورد في الحديث (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ) (السلسة الصحيحة للألباني: 906)، وكما ورد في حديث آخر (كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ) (صحيح البخاري: 1432).
فالعطاء بأنواعه المتعددة كما هو عبادة وقربى لله تتنزل به الرحمات السماوية بما فيه من رحمة بين العباد، وما فيه من تحقيق للعدالة الاجتماعية، وهو كذلك خير يدفع الله به البلايا والكروب والأزمات والكوارث، كما ورد عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من حديث طويل عن الخيرية وخيرية العلم والتعليم، وفيه ورد (وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ). (صحيح مسلم: 2699).
ومحافظة الرس كغيرها من المحافظات والبلدات تميزت برجال ونساء أسهموا في التنمية البشرية والعطاء السخي في المجالات التطوعية المتعددة والمتنوعة في العلم والتعليم، والدعوة والتوعية، والأوقاف وبناء المساجد، والإسهام في المستشفيات وصنوف العطاءات الإغاثية والخيرية عموماً.
وكان الشيخ العالم المُعلِّم محمد الصُّغيِّر من المحفوظين العجمان قاضي محكمة الرس (1379- 1415هـ) أحد هؤلاء الأعلام، وهو من أبرز الرموز الذين يجب أن يُخلِّد التاريخ أسماءهم بمدوناته وكتبه وسجلاته، لا سيما أن إسهاماته كانت مع بدايات التنمية، وبداية اتساع النهضة العلمية والمعرفية ووسائلها آنذاك.
الدور المعرفي والمكتبة العلمية
عُرف الشيخ محمد الصُّغيِّر أنه ممن أعطى نفسه للخير وللخيرية في محافظة الرس، وذلك بوقته ووجاهته الاعتبارية، فكان -على سبيل المثال- سنداً وقوةً معنوية لدعم أفراد نذروا أنفسهم ووقتهم بالتطوع لإنشاء (مكتبة علمية) تعاونية في مدينة الرس تُدار بلجنة مؤسسية قبل المأسسة والترسيم، وذلك عام 1392هـ تقريباً، وكانت أول مكتبة عامة في الرس رسَّخت المعرفة، وعزَّزت من قيم التعاون والتطوع، ووفَّرت الكتب والمصادر والمراجع في كثير من العلوم والمعارف، وكانت حاضنة علمية تربوية لأبناء المحافظة، أُقيمت فيها محاضرات عامة، ودروس وندوات، ونشاط ترفيهي، غَرَست هذه البرامج الوسطية والاعتدال، وربطت بين الأساتذة والطلاب، وجسَّرت العلاقات بين الكبار والصغار من الأجيال، لا سيما حينما ظهرت بمبنى مستقل خاص بها، ولها موارد مالية من تبرعات الأهالي وغيرهم.
وكفى أنها مكتبة عامة لعامة الناس مفتوحة في الصباح والمساء، خاصة حينما كان الكتاب عزيزاً وصديقاً كبيراً للأجيال وموضع حوارات ونقاشات أكثر، وقد نشأت وتأسست وتطورت بجهود تطوعية جماعية مباركة، وتُعدُّ لفتة حضارية مبكرة من أبناء البلدة للإسهام بالتوعية والعلم والمعرفة، وكان قد سافر أبرز مؤسسيها إلى الرياض ومكة والمدينة والطائف وغيرها لجمع الدعم المالي لها من الموسرين والمسؤولين والعلماء، وعلى رأس هؤلاء فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، فكان عطاء الكتب والمال وبعض الأثاث لها من الأهالي وغيرهم، وكان موقعها بجوار مسجد الأمير عبدالله الفيصل.
ثم كان ترسيم هذه المكتبة العامة تحت اسم جمعية خيرية حوالي عام 1398هـ، وبعدها كان انضمامها إلى إدارة تعليم الرس بعد نشأة هذه الإدارة، وقد شارك في تأسيسها وجمع الكتب لها وتشغيلها رموز وأعلام خيرية من أهالي مدينة الرس، منهم -على سبيل المثال- الشيخ محمد الزِّيِدي، والشيخ رشيد الحربي، وكانا طالبين في المعهد العلمي، لكن الجهود كانت بهِمَمِ الكبار، وكان معهما الأستاذ محمد الحواس، والشيخ صالح العيد -رحمهما الله، وكان صالح العيد رئيساً لمجلس إدارتها فترة من الزمن، والمتعاونون مع المكتبة كثير.
والأبرز في هذا أن الشيخ محمد الصُّغيِّر كان الرئيس الشرفي لهذه المكتبة والمشرف العام عليها، وكان من جهوده ودعمه أنه وجَّه عشرات الرسائل للشيخ ابن باز ومجموعة من الأمراء ورجال المال والأعمال للتبرع لها، وكان الشيخ الصغيِّر صمَّام أمان فكري وتوثيق مالي لهذه المكتبة فله -إن شاء الله- نصيبٌ من الخير عن كل ما سبق من وجوه الخير المتنوعة التي قدَّمتها هذه المكتبة للأجيال من أبناء البلدة وللجاليات آنذاك قبل نشأة مكتب الدعوة والجاليات. وهذا خير كبير ساقه الله للشيخ، فكانت رعايته ودعمه ووجاهته العلمية والقضائية من خير ما قدَّمه للرس وأهلها من خلال صَرحٍ معرفي كبيرٍ في أدواره، إضافةً إلى أن المكتبة تعكس حضارية شباب الرس ومعلِّميها وأهاليها وعلمائها آنذاك.
جمعية تحفيظ القرآن (التأسيس والإسهام)
كان للشيخ الصغيِّر إسهام كبير في رئاسة أول مجلس إدارة لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الرس (1412 - 1419هـ)، وكانت للتحفيظ بدايات فردية متعددة مأجورة -إن شاء الله- قبل هذه البداية المؤسسية التي بدأت فرعاً من فروع جمعية منطقة القصيم عام 1398ه، وتطورت لتكون مستقلة عام 1412هـ، وقد كانت هذه الجمعيات بعمومها بوابة خير وبركة لبلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحيين، ففي هذه الجمعيات إسهامات مشهودة في الأمن الفكري والاجتماعي والتميُّز التعليمي، كما هي نتائج الدراسات التربوية والأمنية المعروفة، وفي هذه الجمعيات (المُنجز الحضاري) تَحقَّق الاكتفاء الذاتي إلى حدٍّ كبير لبلدات هذا الوطن من مُعلِّمي القرآن وأئمة المساجد وأساتذة التعليم العام، وفيها كان التوظيف للطاقات التطوعية من الرجال والنساء، ومنها كان -ولا يزال- الإسهام المستمر في تمثيل المملكة العربية السعودية بأئمة في معظم بقاع العالم خاصةً في مواسم رمضان، بل كان ما هو أكبر من هذا، وهو تغذية الحرمين الشريفين بالأئمة والمؤذنين والقراء ومعلمي التحفيظ، وكفى أن تُوصف هذه البرامج والمشاريع البنَّاءة بالخيرية الثنائية للمُعلِّم والمُتعلم، وذلك بقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ) (صحيح البخاري: 5027). والجمعيات برموزها ومخرجاتها الخيرية المباركة تستحق كل واحدةٍ منها التدوين التاريخي والتوثيق الكتابي، فهي صروح حضارية تفخر بها البلاد وتنافِس بها -بحمدالله- غيرها من دول العالم الإسلامي؛ حيث تزداد وتيرة المنافسات الدولية والفعاليات بالقرآن.
وكان للشيخ محمد الصُّغيِّر الاهتمام والإسهام مع أعضاء مجلس إدارة الجمعية الذين تحقق على أيديهم خير كبير في تأسيس الجمعية بمواردها المالية المحدودة آنذاك، ثم بعد ذلك بمكاتبها الفرعية وأوقافها المتعددة واستثماراتها المتنوعة زمن رئاسته للجمعية، وكان للشيخ وجمعية التحفيظ بالرس دور رئيس وسبب فاعل مع جمعيات كل من الطائف والرياض والدمام وجدة وربما غيرها، وذلك برفع طلبات تفعيل (منح مقار) رئيسية للجمعيات، حيث كان صدور الأمر الملكي المبارك لتمليك جميع جمعيات تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة مقار عمل وإدارة، وذلك لعموم الجمعيات برقم 4/ 1178/ م وتاريخ 11-06-1406هـ، كما كان صدور أمر آخر خاص بالدور النسائية لجميع الجمعيات برقم 7/ ب/23696 وتاريخ 21-11-1422هـ إدراكاً من القيادة العليا لأهمية هذه الصروح الحضارية ودورها في أمن العباد ورُقي البلاد وتحضرها.
ويضاف إلى ما سبق عن منجزات جمعية التحفيظ بالرس ومخرجاتها المباركة التراكمية فيما بعد ذلك، دُفعات من الحافظين والحافظات سنوياً بأجورٍ تتضاعف -بإذن الله- إلى يوم القيامة، حيث إن أبرز مخرجات الجمعية تخريج مجموعات وأعداد قارئة وحافظة متميزة قياساً بحجم ما يماثلها من جمعيات، علماً أن لغة الرقمنة والإحصاءات التي تُعدُّ من مؤشرات النجاح والتميز لا تعبِّر تعبيراً كاملاً عن المنجزات مهما كانت، فاللغة مع القرآن شيءٌ آخر لا يُقاس؛ حيث لغة البركة والخيرية، والعلم والدين، والرحمة والسكينة، والأمن النفسي والاجتماعي، مما يفوق لغة الأرقام والإحصاء، ولعل للجميع نصيباً من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ) (أخرجه البخاري ومسلم).
وكانت رئاسة هذه الجمعية كغيرها مسؤولية وأمانة. وكفى شرفاً للشيخ محمد الصغيِّر أنه تولى رئاسة مجلس الإدارة عند التأسيس وبداية النشأة المستقلة عام 1412هـ إلى عام 1419هـ، وعاش التطوير وتحمَّل مسؤوليات ذلك، وللمرحلة تحدياتها وعقباتها الإدارية والمالية، مع قلة توفر الكوادر الإدارية والتعليمية، وهو عطاء مجتمعي يستحق التدوين عن الجمعية بتاريخها ومنجزاتها، ويستحق الذكر الحسن لشخصٍ من أبرز المؤسسين -رحمه الله، ولهذا جاءت لمسات الوفاء لجهوده ممن تَسَلَّم رئاسة الجمعية من بعده، وهو الشيخ عبدالعزيز الحُميِّن رئيس محكمة الرس (1415 - 1427هـ) الذي عمل مع مجلس الإدارة على افتتاح مدرسة قرآنية أو مجمع تعليمي أُطلق عليه اسم الشيخ محمد الصغيِّر عرفانًا وتقديراً، وهو ما لاقى قَبولاً واستحساناً ودعماً من عائلته، ومن مجتمع محافظة الرس كذلك، وفي هذا وفاء لأهل الفضل وإحسانهم، وفي كلٍ خير، وليس هذا العطاء بغريب على أهل البلدة وقضاتها الأوفياء مع العطاء الخيري.
كما أن هذه الخيرية للشيخ الصغيِّر ليست بمستغربة عن شخصيته العلمية والمعرفية، فمن صفاته الشخصية أنه حافظٌ للقرآن، مُجيدٌ للفقه الحنبلي، وكان له درسٌ علمي وتلاميذ بمسجده بالرس، وكان قد تتلمذ على بعض أبرز علماء زمنه من عنيزة، ومنهم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ومحمد المطوَّع ومحمد بن عثيمين -رحمهم الله-، إضافةً إلى دراسته النظامية في دار التوحيد بالطائف والمعهد العلمي وكلية الشريعة بالرياض، وهو من القدوات في العلم والعمل والنزاهة في المنصب -نحسبه والله حسيبه-، وقد عُرف بالأناة والتروي، والصبر والحِلم، وكان صاحب نكتة ودعابة مع جلسائه.
وكانت علاقتي به علاقةً عامة، لكن محبته للخير والعطاء لمدينة الرس وشبابها، من خلال خدمته للمكتبة العلمية، وجمعية تحفيظ القرآن، مما جعلني -كغيري- أقدِّر له هذا الجميل، بل وتشرفت باستضافته في منزلي بالطائف صيف عام 1417هـ، وجاء هذا المقال المُحدَّد موضوعه بالجانب الخيري للشيخ وإسهامه الحضاري بالعلم والمعرفة، استجابةً لطلبٍ كريم متكرر من ابنه الدكتور خالد، وفي هذا تعبد وقربى لله كذلك، كما أن في هذا بعض الوفاء بحق رموز العطاء في وطن الخير والعطاء، وفي هذا كذلك تعزيز للكتابة عن مرحلة تاريخية مهمة في بناء الأجيال والمجتمعات، وأي مجتمع لا يقرأ تاريخه أو يكتُبه حري به أن لا يعتز به وبقدواته ورموزه، بل يكون الانقطاع لتاريخه ومجده، ولعل في هذا التعريف شراكة في هذا الشأن التاريخي المهم.فالتاريخ الاجتماعي، وتاريخ مرحلة الشيخ وأقرانه لها حق على الجميع، والتنوع في الكتابات وتعددها مما سهَّلته وسائل العلم والتقنيات، والمأمول من هذه الكتابات السابقة واللاحقة عن رموز الخير والعطاء من الأقلام المتعددة، أن تكون قاعدة معلوماتية بكتاب أو كُتب خاصة بأهالي المحافظة.
والكتابة في هذا المشروع ممكن أن يتنادى لها أهل الأقلام من المثقفين وطلاب العلم، للتدوين عن بلدتهم ورموزها في عموم العطاء المعنوي والمادي، ولعل في هذه الكتابة إسهاماً مع غيرها من آخرين بما هو أحسن وأتم، وذلك بحق رموز أَعطَتْ نفسها ووقتها ومالها، فأسهمت بالخيرية لمجتمعاتها بما تستحق من تخليد لذكراها في ذاكرة التاريخ وحضاريته. والله ولي التوفيق وهو المعين.
** **
- باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث