رمضان جريدي العنزي
التنازل الطوعي لوجه الله عن الدم أو قبول الشفاعة الصادقة من أجل عتق رقبة وإحياء النفس، عملية أخلاقية وسلوك إنساني نبيل، إن هذا التنازل الطوعي ينم عن طهر وصفاء ونقاء في الذات، وقدرة على الصبر والاستغناء عن الكثير من المراد لصالح الآخرين، تقديماً وتفضيلاً لهم على النفس والمبتغى، في منحىً بالغِ الدلالة على عمق المروءة والرجولة والإنسانية، ويعد درساً مهماً في باب التعاملات الاجتماعية، إن أمثال هؤلاء هم القدوة الحسنة في المسارات والمدارات الإنسانية الراقية، إن مبادرات الرجال الخيرين الصادقين في هذا المضمار غير الباحثين عن الضوء والشهرة وبريق الفلاشات والمدح والإشادة وتصفيق الحاضرين يعد سبباً في مجال الخير والنفع والبر والإحسان، المهم أن لا يكون هذا العمل لغير وجه الله تعالى، ولا أن يكون من أجل السمعة والنفاق والرياء والكسب والتكسب والفائدة، و(شد لي وأقطع لك) وسحب البساط من تحت أقدام الناجحين قصداً وعنوة وعبثاً وخراباً.
إن كل عمل لا يقصد به وجه الله الكريم يعد عملاً باطلاً وسيئاً ورمادياً ومجافياً للعمل الإنساني الصحيح، إن العمل الشامخ الذي يقوم على أساس الصدق والوضوح في القول والعمل في هذا الميدان الإنساني الحساس يعد نموذجاً راقياً يخرج من نفوس طاهرة وأرواح نبيلة ورجاحة عقول رجال عظيمة لا تبحث إلا ما عند الله وليس ما عند عباد الله، إن الرجال الحقيقيين هم أصحاب المواقف الوضاءة الخالدة أصحاب الرفعة والعظمة والتألق البعيدون عن الانحدار والسقوط في أوحال المادة والمصلحة والنفاق والشللية والرياء، وهكذا يعطينا الرجال الحقيقيون الدروس البليغة في الأعمال الإنسانية الخالدة التي لا تشوبها شوائب السمعة الباطلة والرياء الفظيع ومسرحيات التنافس البغيض وبهلوانية الأفعال.
إن من يفعل المعروف أو يبتغي الإصلاح ابتغاء مرضاة الله وحده لا يحتاج إلى تطبيل وتهليل وأناشيد وجوقة مطبلين ومزمرين ومتملقين، ويرفض البهرجةَ القولية والفعلية ويمقت التمجيد والتحميد والإطراء والثناء الزائد عن الحد والمنافي لكل الموقومات الأخلاقية والأعراف الحميدة والسلوك الإنساني النبيل والعمل الخيري الشفاف، قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
إن الفوضى العارمة والاجتهادات الشخصية والجماعية الحاصلة الآن والتي تخالف الأنظمة والقوانين في هذا الشأن والتي تكتنفها إقامة المهرجانات والاجتماعات والمدح والإشادة بالأفراد باسم الدم وتحت ذريعة عتق الرقاب، يجب أن تتوقف وتوقف بحد النظام الواضح والقانون الصارم، إن من المعروف بأن (الدية) شرعاً حق لذوي القتيل، ولا خلاف على ذلك، لكنها يجب أن لا تترك وفق (الأهواء والنزوات والتناخي) بل هي قيمة مقدرة لجبر النفس في حال رغب ذوو القتيل المال مقابل الدم، إن ما يدار في تجمعات ومهرجانات الدم مجرد (سعار) حاد لرفع الذوات من الأشخاص وتهميش الآخرين، وعمل تنافسي سيىء وبغيض وفعل مقيت، وشحن للنفوس، وتفريغ للجيوب، بعيداً عن الدور الحقيقي لمعنى (الشفاعة)، وفي المقابل فإن خروج (الدية) عن مسارها الحقيقي والمبالغة في طلبها من قبل أولياء الدم وفق مبالغ فلكية تعد (تجارة) أيضاً ومصدر ربح.
لقد بلغ السيل الزبى، واتسع الخرق على الراقع، لهذا فإن على الجهات المعنية ممثلة بوزارة الداخلية ووزارة العدل وضع تنظيم يقضي تماماً على سماسرة الدم والمتاجرين بالدماء وجامعي الأموال والقضاء على النصب والاحتيال واستغلال النفوذ والوجاهة والمكانة، لأهداف شخصية متنوعة ومتشعبة، إن منع حملات التبرع منعاً تاماً، وإيقاع العقوبة على المخالفين من الأفراد والجماعات أو المشاركة العلنية أمرٌ مطلوبٌ ويجب أن يفعل بصورة عاجلة غير آنية، إنني آمل من الجهات المختصة أن تضع حداً لمثل هذه الحالات فإما القصاص أو العفو أو الدية المشروعة، بعيداً عن الغلو والمبالغة والتغليظ والتعجيز، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وفي الأخير إن هذه الأموال الطائلة التي تجمع لكل دية، وهذه المهرجانات والاجتماعات والتناخي وشحذ الهمم لو عملت للمعوزين والفقراء والأرامل وذوي الدخول المحدودة وأصحاب الحاجات تحت مسمى التكافل الاجتماعي لكان خيراً وأبقى ولصححت ظروف اجتماعية كثيرة كانت بائسة ومتعثرة، إن على الفرد والجمع العاقل العمل على التكافل الاجتماعي بكل أنواعه وطرقه، لأن أصحابه هم من يستحقون رص الصفوف وشحذ الهمم والتناخي والتنادي لأجل انتشالهم من فاقة العوز والحاجة ونقص المادة، إنني أكتب من قلب ولب وصدق وحقيقة، وعلى العاقل الحصيف الإدراك والتبصر بما قلت وربما سأقول.