سراب الصبيح
«عاجزة عن التعبير عن شعوري؛ كجندي مبتور اليدين عاجز عن التصفيق لقصيدة أُلقيت في حفل تكريمه»
- غولبهار مهشيد (وفاء الحربي).
إن القصة القصيرة جدا، فن آسر، فحتى أولئك الذين شرعوا من قريب لكتابتها يبدعون فيها؛ وأحسب ذلك -في ظني- لعنصر المفاجأة الذي تُختم به القصة، فبدايتها تحمل تساؤلات أو مشهدا غاية في العادية -على أغلب الأحيان- لكن يُقلب رأسا على عقب عند اكتماله -المشهد أو السؤال- في الختام المفاجئ.
أقول ذلك قاصدة القصة القصيرة جداً عامة، واختصصت المبتدئين بها، فكيف بمن تمرس في فنونها حتى حشرج المعنى المنساب انسياب النهر في زجاجة لفظية صغيرة، مثل القاصة وفاء الحربي، أو كما تسمي نفسها (غولبهار مهشيد).
قصتها التي استهللت بها المقال أعلاه قرأتها قبل قرابة ست سنين، ولمّا أزل تحت تأثير اللحظة الأولى التي قرأتها بها، فبداية صورت العجز عن التعبير عن الشعور؛ وهو أمر عادي عند من لم يرزح تحت وطأته، لكني أعاني منه أيما معاناة، ولأجل ذلك شدني كنص يعبر عني، سأخرج مني الآن وأعود للقارئ الذي يراه أمرا لا يهمه، هكذا بدأت القصة بأمر غير ذي جلل: العجز عن التعبير، لكن يأتي الختام اللصيق بالابتداء بحلة تصوير بلاغي وهو عنصر «التشبيه» فتشبه وفاء الأمر البسيط جدا، بمشهد يجعل من القارئ الذي لا يكترث لهذا الأمر لأنه لا يألم منه يشعر بمعانة من هو مألوم به. فقد نقلت المشكلة من المعنى المعنوي إلى المحسوس، فالعجز عن التعبير هو أمر معنوي، لكن الجندي مبتور اليدين فألمه محسوس، وإن كان هو الآخر ارتبط لديه المحسوس بالمعنوي؛ ذلك أن القصيدة التي عجز عن التصفيق لها إنما ارتباطه بها ارتباط معنوي، فالقصيدة ليست ملموسة، لكن عجزه تصور بالمحسوس وهو عجزه عن التصفيق بسبب حالة يديه. وهذا تشبيه أحسبه في غاية الذكاء البلاغي أن شبهت وفاء المعنوي: العجز عن التعبير، بالمحسوس: العجز عن التصفيق!
حتى الآن لم أجد قاصا كتب قصة قصيرة جدا وكان عنصر المفاجأة بها سعيدا، وأتمنى ألّا تخرج عن ذلك؛ لأني أرى هذا الفن الأدبي حق لأولئك المألومين من القاصين وقارئهم، فهؤلاء الناس كلما زادت عندهم التجربة الحياتية كلما قصرت اللغة عن ترجمتها -كما تحدثت عن ذلك في كتابي: صراع مع اللغة- ونتيجة لذلك فإنهم يشحنون المعنى المتضخم في قصة قصيرة جدا، بدايتها لا تفاجئ، ونهايتها يكون عنصر المفاجأة لما لقوه من هذه التجارب الحياتية.
وعودة إلى وفاء، وبنصها السابق والتالي، أقول هذا ما دعاني لعنونة المقال باكتمال القمر؛ ذلك أن قصصها من البداية المألوفة وحتى عنصر النهاية تشبه منازل القمر الذي يعرف وجهه حين اكتماله، كما يعرف الجمال في قصتها حين اكتمال عنصر المفاجأة في الختام.
وهنا نص آخر لوفاء، أختم به هذا المقال، وأترك للقارئ فسحة التأمل: «لم يكن لديها إخوة تقاسمهم الحلوى فكانت تتقاسمها مع دميتها، تستخرج القطن، وتستبدله بالحلوى. في الليل، حين تشعر بالجوع، تأكل أحشاء دميتها. حين كبرت أنجبت خمسة أبناء، وفي كل ليلة تستيقظ مفزوعة، تذهب إلى غرفتهم لتتأكد أنهم لم يأكلوا أحشاء بعضهم بعضا».