سلمان بن محمد العُمري
محبة المسلمين الأخوية فيما بينهم هي أوثق عرى المحبة في الله، وقد جمع الله المتحابين تحت ظلال عرشه، ووثق الإسلام ذلك بوجوب المحافظة على مال المسلم وعرضه ونفسه، بأن لا يصيبه أذى ولا يُمس بسوء.
ولكن بعض النفوس تبحر في مياه آسنة تتشفى ممن أنعم الله عليهم ورزقهم من خيره بالحقد والحسد، فيثمر ثمراً خبيثاً غيبةً ونميمةً واستهزاء وغيرها، ولا يخلو مجتمع من تلك النفوس الدنيئة.
والأصل في المسلم هو كف الأذى قولاً وفعلاً عن الناس وحبس اللسان والجوارح عن الإساءة للآخرين، بل هي عبادة عظيمة يغفل عنها كثير من الناس، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)، ويقول رسولنا الصادق الأمين: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك».
ولاشك أن الاعتداء بالسب والشتم، والغيبة والنميمة، وأذية الناس بالقول والعمل تشمل كل هؤلاء، وكذلك الحسد المتمثل في تمني زوال النعمة، وقد يتجاوز حد التمني، وحب الإضرار بالغير، إلى السعي العملي في ذلك.
والحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس؛ ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، قال ابن حِبّان: الحسد مِن أخلاق اللئام، وتَرْكه مِن أفعال الكرام، ولِكُلّ حَرِيق مُطْفِئ، ونَار الحسَد لا تُطْفَأ!
ولا يكاد يُوجَد الحسَد إلاّ لمن عَظُمت نِعْمة اللَّه عَلَيه، فكُلّما أتْحَفه الله بِتَرْداد النِّعَم ازداد الحاسِدون بِالْمَكْرُوه والنِّقَم.
والحسد موجود منذ خلق الله البشرية، وفي هذا الزمن كثر الحسد والحساد في بيئات العمل، وحتى بين الأقارب والأصحاب، وتلك الصفة الذميمة التي تعد من أقبح الصفات وأخسها، ناتجة عن غيرة ومرض داخلي، وهو ما اعتبرته منظمة الصحة العالمية من الأمراض النفسية الخطيرة، ودعت إلى التعامل مع الحاسدين والغيورين على أنهم مرضى يحتاجون إلى العلاج، وأكدت إحصاءات المنظمة الدولية أن ثلث سكان العالم أي نحو ملياري شخص، مصابون بداء الحسد والغيرة ويجب علاجهم والتعامل معهم على أساس أنهم مرضى، والحاسد «الحاقد» شخصية مريضة ومضطربة، تعاني من صراعات نفسية داخلية، فتجده ينظر إلى ما في يد غيره من الناس ويتمنى زواله ويسعى في ذلك حتى لو كان يملك ما هو أفضل منه، وتختلف درجات الحسد باختلاف العوامل التي تؤدي بالإنسان إلى هذا المرض، وداء الحسد ليس مقترناً بفئة دون أخرى؛ فتجد الحسدة من الذكور والإناث، حتى عند بعض المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا والمناصب وهم مرضى بالحقد والحسد والغيرة، كما تظهر أسوأ هذه الحالات في تلك الفئة التي عانت من الحرمان في صغرها، مع ضعف الإيمان بقضاء الله وقدره، وعدم الرضا بما قدّره الله، فينشأ وقلبه مريض لا يعرف حب الخير حتى لأقرب الناس إليه.
والحسد ناتج عن قلة العقل وضعف التحكم في العواطف، فإنه -أيضًا- ناتج عن قلة الدين، وضعف مراقبة العبد لربه - عز وجل - فالحسد من كبائر الذنوب، فهو أول ذنب عُصي الله – تعالى - به في السماء، حين حسد إبليس آدم - عليه السلام -لأن الله أمره أن يسجد لآدم، فقال معترضًا على حكم ربه، وحاسدًا لآدم: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً)، وهو أول ذنب عُصي الله به في الأرض، حين تقبل الله قربان أحد ابني آدم ولم يتقبل من الآخر، فحمله الحسد على قتل أخيه.
ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسد، فقال: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا) رواه مسلم وغيره، وقال- عليه السلام -: (لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله، وفيح جهنم، ولا يجتمع في جوف عبد: الإيمان والحسد).. رواه ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني.
ولشدة أذى الحاسد، وشرور الحسد، أرشدنا الله تعالى إلى الاستعاذة من ذلك فقال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في العُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ)، فنعوذ بالله من شر الحاسد، ونعتصم به تعالى من أذى الحاسدين.
يقول معاوية - رضي الله عنه -: (ليس في خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود)، وقال بعض الحكماء: يكفيك من الحاسد أنه يغتم في وقت سرورك»، وهذا كلام حكيم فعلًا، ففي الوقت الذي يتنعّم فيه المحسود بنعمة الله تعالى، ويتمتع بها فرحاً مسروراً، تجد الحاسد يحترق قلبه بنار الحسد، ويغتم فؤاده بلهيب الكراهية. فأي عاقل يرضي لنفسه بهذا؟! بل إن الحاسد يجر في كثير من الأحيان منافع عظيمة للمحسود، فيكون سببًا لنشر فضائل المحسود، وإذاعة مزاياه.. كفانا الله وإياكم الحسدة المرضى الحاقدين.