د.أمل بنت محمد التميمي
لا أقول إن مؤتمر الإبل في الثقافة العربية مؤتمر لا ينسى لأنني مشاركة فيه بورقة عنوانها: (الإبل والموروث الثقافي في السينما السعودية: قراءة سيمولوجية لفيلمي «هجان» و»ناقة») ولكن هناك أسباب كثيرة تجعله مؤتمراً لا يُنسى محلياً وعالمياً وإنسانياً ... وهو أشبه بالملاحم التي يخلدها التاريخ.
كان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر علمي أحضره يجمع كل هذه المتع العلمية والبصرية والفنية والسمعية حيث تنوعت الأساليب في تحقيق أهداف المؤتمر وهي تنمية البحث العلمي في ثقافة الإبل بوصفه مكوناً ثقافياً في الهوية العربية وقيمة وطنية وثقافية في المملكة العربية السعودية، استمتعنا على مدار ثلاثة أيام بما قُدم في المؤتمر، من الثلاثاء وحتى الخميس 14-16-1446هـ بالأوراق العلمية التي طرحت، والمعرض المصاحب الذي أظهر الإبل في الموروث الفني والعلمي والغذائي والتقني، بالمؤتمر الدولي الخامس (الإبل في الثقافة العربية) الذي عقده قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود بالشراكة مع مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية برعاية كريمة من سعادة رئيس جامعة الملك سعود المكلف الأستاذ الدكتور عبد الله السلمان، واختتمنا تلك الأيام الجميلة بالتوصيات على لسان أ.د. علي المعيوف، وتوديع الفريق العظيم الذي ساهم في نجاح المؤتمر تنظيما ومشاركة وحضوراً.
ستكون مقالتي مقسمة إلى ثلاثة محاور أساسية: الأول موضوع حول ورقتي التي شاركت بها بالمؤتمر، والثاني حول طبيعة الأوراق المشاركة في المؤتمر والحضور، والثالث بشأن اللقاء مع الروبوت (سعود) الموجود في المعرض المصاحب للمؤتمر.
كانت ورقتي الأولى في المؤتمر، وتناولت فيها دور الإبل كموروث ثقافي في السينما السعودية، عبر تحليل سيمولوجي لفيلمي «هجّان» و»ناقة». وسلطت الضوء على رمزية الإبل في المشهد الدرامي، وكيفية توظيفها في البناء السردي لتقديم قضايا تعكس هوية المجتمع السعودي، بهدف الكشف عن الموقع التي تشغله الإبل في الدراما السعودية، من خلال فيلمي (هجّان)، و(ناقة).
ووظّفت الورقة المنهج السيمولوجي في تحليل العناصر البصرية واللغوية، مثل زوايا الكاميرا، والتأطير، ورمزية الشخصيات والمشاهد، لتفسير دور الإبل كعنصر درامي وثقافي. وتناولتها بالتحليل من خلال العناصر التالية:
1. السيناريو وبناء الشخصيات.
2. الإخراج وتقنيات التصوير.
3. المونتاج والإيقاع السردي.
وكانت تساؤلات الورقة الرئيسة هي: كيف تعكس السينما السعودية صورة الإبل كموروث ثقافي؟ وما القضايا التي طرحتها الأفلام حول الإبل؟ وهل توظف السينما هذا الموروث بشكل يعزز الهوية الوطنية أو يكسره لمواكبة الحداثة؟
فعلى مستوى السيناريو وبناء الشخصيات، قصة الفيلم «هجّان «تحكي قصة صبي يتيم يُدعى مطر تربطه علاقة خاصة مع ناقته (حفيرة) التي تموت أمها في بداية الفيلم وهي تلدها وتبقى (الحوار) التي يسميها مطر حفيرة، يدخل مطر عالم سباقات الهجن للاحتفاظ بناقته «حفيرة»، ويكشف عن علاقة وجدانية عميقة بين الإنسان والإبل، فضلاً عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بهذه الرياضة التراثية.
فالفيلم يحكي قصة صبيّ في صحراء المملكة الشاسعة الممتدة يسكن شمال المملكة، واليافع الذي يقوم بدور مطر هو عمر العطوي الذي لم يكن ممثلا بحسب اللقاء الذي أحري معه، وإنما وقع عليه الاختيار عليه لتمثيل هذا الدور أثناء البحث في المدارس عمن يمثل هذا الدور، وهذا دليل على أن الصبي (هجّان) بالفطرة وعاشق للإبل. يوقد تم تصوير الفيلم في صحراء تبوك، وجاء العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي 2023م.
تدور أحداث «هجان» حول مطر وأخيه غانم اللذين يعيشان في صحراء منطقة تبوك (شمال غربي المملكة العربية السعودية)، الأخ الأكبر غانم هو (الهجان) وأخوه الأصغر مطر (خيّاط) يخيط السروج ولباس الهجّان، ويظهر في الحوار بين الأخوين أن الهجن عشق متوارث من الأجداد والآباء، حيث تتكرر هذه العبارة من أول الفيلم: «حنا كنا هجانا ومازلنا هجانا وللأبد» ويخيط مطر الطفل اليافع الذي يبلغ (15 عاما) لبس الهجاّن غانم ويثبت له رقمه على الجاكيت (السترة) من الخلف (رقم6) المعلن على بوستر الفيلم باللون الأصفر، ويعكس الحوار (التعاطف بين الإنسان والدابة الناقة) وتمتثل لأمره بهدوء محدثة أصواتاً تدل على التعاطف والحنان. ويعكس الفيلم العلاقة الوجدانية بين الناقة وصاحبها.
ويظهر للمشاهد سباق هجن بكل تفاصيله، من ميدان السباق والمربط والسيارات المصاحبة له والتعليق الصوتي ولجنة التحكيم، وكذلك يظهر عنصر جديد للمشاهد يكشف بعض الغش الذي يمكن أن يحدث في سباقات الهجن، وشخصية (جاسر) هي الشخصية الشريرة التي تغير الأحداث، مستخدما بعض الأساليب غير الشريفة لنيل المركز الأول للإبل التي يمتلكها، حيث يتدخل أشخاص في إسقاط مطر من على ظهر حفيرة، ويجبر الأخ الصغير مطر لمنافسات سباق الهجن للاحتفاظ بناقته حفيرة، وندخل في تفاصيل عادات أصحاب الأملاك ويسمونه (الحلال) في الاحتفاظ بالناقة. ويتناول أسرار سباق الهجن.
الجميل في الفيلم أنه عرض في (عام الإبل) وهو للمخرج المصري أبوبكر شوقي، ومن كتابة السعودي مفرج المجفل، وكاتب سيناريو مصري ومنتج فيلم عمر شامة، ومن بطولة عبد المحسن النمر، وعمر العطوي، والشيماء طيب، وعزام النمر، وتولين بربود وإبراهيم الحساوي.
وفي السياق الثقافي الفيلم حاز فيلم (هجّان) على جولة سينمائية عالمية، واللغة النصية في الفيلم تعكس (لغة سباقات الهجن) حيث تخبرنا: من هو الهجّان؟ وما هو المراح؟ وما هو الوسم؟ وما هو الناموس؟ وما هو المربط؟ وتطلعنا على أسماء كثيرة من أسماء الإبل منها: «البكرة والحوار والحاشي والقعود ...إلخ»
واسم الفيلم لها دلالة بمورث ثقافي عربي أصيل فكلمة (هجّان) هي مفرد هجانة وهو راكب الإبل في السباقات، والهجن نوع من أنواع الإبل لكنها مخصصة للسباق، أما المالك فهو صاحب الهجن المعدة للسباق. والهجن رياضة عربية أصيلة مارسها العرب منذ القدم، وتوارثها الأجيال على مر العصور والأزمان، وهي تراث عريق تقدره الأجيال المعاصرة.
وعناصر الحكاية، مكتملة، وتحمل بُعد التشويق في الصراع بين الخير والشر لينتصر الخير، والفيلم يصور بيئة سباق الهجن بكل تفاصيلها دون أن تشعر بأنك ترى فلما وثائقيا بل تشاهد واقعا بهوية بصرية جميلة ساحرة، وتطرب الأذن باللكنة البدوية والألفاظ الخاصة بحياة الإبل مثل: (ارفع راسنا وارفع ناموسنا) لتبحث عن معنى الناموس. وفي الفيلم عبارة مفتاحية تقال على لسان عابد التي تصور المأساة الحقيقية في شخصية جاسر الذي يريد الفوز وهو لا يفقه شيئا في سباقات الهجن حيث يقول عابد: «ماله بالهجن لا ناقة ولا بعير»
أما فيلم «ناقة» فتدور أحداثه بالرياض للفتاة المتمردة، تدخن بشراهة وتضع الحنة بيدها لتبرز العلاقة المتوترة بين الموروث الثقافي وظروف الحياة المدنية الحديثة .ويتناول فيلم (ناقة) قصة سارة، وهي فتاة سعودية تخرج مع والدها إلى السوق وهي من عائلة محافظة ولكنها تواعد شابا للهروب معه من السوق لحضور حفلة في الصحراء، وينبه عليها والدها على عامل الوقت ويحدد لها الساعة العاشرة إلا ربع التي يجب أن تعود فيها، لا تقدم دقيقة ولا تتأخر دقيقة ليدخل المشاهد مع البطلة في التوتر بعامل الوقت والتصوير الذي ينقل هذه المشاعر المتوترة والمهتزة والقاتمة بالسواد، ويعطيها الشاب مادة مخدرة لترى الدنيا من حولها تدور، وتصطدم السيارة التي بها سارة والشاب ابن الناقة وهما يسيران في الطريق، ثم يذهبا إلى حفلة عجيبة بها الكثير من المصائب ومع تطور الأحداث، تواجه الكثير من المشاكل، وتنقطع بها السبل في الصحراء قرب مدينة الرياض، حيث تجد نفسها مجبرة على مواجهة ناقة ناقمة، وما هو أسوأ منها، وأثناء هذه المواجهة كانت والدتها تتصل عليها تحسبها بالسوق لتطمئن عليها وتذكرها بالأذكار، وسارة تتمتم بالأذكار، حتى تتمكن من العودة ... وتتوالى الأحداث.
كان بيد سارة (الحنة) التي يعشقها كل البنات ويضعنها ليلة العيد ويقال لها (قبضة العيد أو صحن العيد) وكانت تنظر إليها كلما اشتد بها الأمر أو واجهتها مشكلة، ورمزية (الحنة) بيد سارة تدل على الصراع في داخلها بين الأصالة والحداثة التي حولها، ولكن تنتصر الأصالة وذلك بتأمل الفتاة ليدها بالحنا طوال الفيلم، والرسالة التي يتضمنها فيلم ناقة أن العادات والقيم هي التي تنتصر على همجية بعض المستجدات أو التحرر الذي يذهب العقل والكرامة.
وفي تحليل علاقة الإنسان بالصحراء والإبل والناقة: تبرز في كلا الفيلمين علاقة الإنسان بالصحراء والإبل والناقة كعناصر محورية تمثل التراث الثقافي والهوية. ونتعرف على مستلزمات البيئة الصحراوية الجميلة في المملكة التي تتبنى مثل هذه الرياضة من جمال الكثبان الرملية وميدان الهجن، ووصف الهجن حتى في أدق التفاصيل، ونرى (مطر) وهو يكلم حفيرة قائلاً لها: «لا تتحركين بخيط السرج».
ويوضح الشعر قصة الجد (الهجّان) حيث تتكرر عبارة: «إحنا كنا هجانا وما زلنا هجانة وللأبد»، والبناء الدرامي يصف المشاعر بين الإنسان والحيوان، بين التقاليد والحداثة، والشجاعة والوهن.
أما على مستوى الرؤية الإخراجية والطابع العام للفيلم فإن العناصر الفنية في الإخراج السينمائي تشير إلى التكوين البصري وترتيب وتنظيم العناصر المرئية في إطار الفيلم، فحينما ترى صورة الناقة في الإعلان عن الفيلم مع الأبطال فهذا يوحي بأن الناقة ضمن أبطال الفيلم. وتأتي صورة عبد المحسن النمر الذي يمثل دور الشخصية الشريرة (جاسر) على الجهة اليمنى ويقابله على الجهة اليسرى صورة الناقة حفيرة التي هي البطلة الموازية للبطل عبد المحسن النمر والت ي تكون بطلة مضادة لصورة البطل الأقوى. فتقتل في النهاية الشر وتنتصر وتقتل جاسر انتقاما لمطر.
أما على مستوى المونتاج والإيقاع، فصوت البعير في الفيلم من أكبر المؤثرات السمعية في الفيلمين، سواء صوت الإبل وهي تتفاعل مع راعيها بالحنان، أو وهي منفعلة، أو صوت نداء الجمل وتجاوبه.
ونرى التصاق الطفل مطر بحفيرة وهو يتيم وهي مات والدتها أثناء ولادتها، والعلاقة الوجدانية بينهما وحفيرة كأنها تمثل له رمزية الأم التي تنتقم له وتحميه والبطولة جماعية بطل (طفل) وناقة (حفيرة) شكل جديد للبطولة وتمثل الخير، والبطل الآخر (جاسر) ويمثّل بطولة الشر. هذا الشكل الجديد للبطولة يبرزه مشاركة الناقة للإنسان لتحقيق العدالة والخير على الأرض.
قراءة اللقطة في فيلم (ناقة)
وقراءة الصورة من أعلاها وأسفلها: اللقطة تكوين هرمي، المسيطر في المشهد أرجل الناقة التي ترمز لوضع الحافر على الحافر والعادات التي نسير عليها، ويلفت النظر إلى محيط الإضاءة الغموض أو التوتر أو المشكلة، فعند قراءة الصورة يعرف أن هناك مشكلة.
تحليل مقارنة:
الفلمان من إنتاج عام (2023م) في كلا الفيلمين، «هجان» و»ناقة»، تُستخدم العلامات والرموز للتعبير عن علاقة الإبل بحياتنا سواء على مستوى الموروث الثقافي في سباقات الهجن، بينما فيلم «ناقة» يُبرز أهمية القيم الثقافية والحفاظ على الكرامة في وجه التغيرات. كلا العملين يُظهران قدرة السينما السعودية على تقديم قصص غنية بالمعاني والرموز التي تتفاعل مع الواقع الثقافي والاجتماعي للإبل من خلال السينما. وأظهرت أن الناقة في كلا الفلمين هي رمز للأم التي تنتقم وتحمي أبناءها.
والأيقونة السينمائية تؤصل الهوية البصرية للفيلم في جميع صالات السينما السعودية والعالمية بأن الإبل عنصر من عناصر الرؤية الإخراجية للفيلم، وتعد الإبل شخصية رئيسية فيه، وكما يشير عبد المحسن النمر، لعل فيلم هجّان يرتقي إلى تبديل أيقونة (الجمل) عند الآخر المتعلقة بالجهل والتخلف وأبدى التحضر. وهذه الأبعاد تمثل محورا من محاور المؤتمر وهو المحور الأول. ولهذا السبب كانت ورقتي الأولى في المؤتمر.
وتأتي السينما كواحدة من أكثر الفنون تأثيراً في المجتمع الحديث، وجزءًا رئيساً من المشهد الثقافي، والسينما تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في تقديم رؤية وطرح مشكلات والحفاظ على الذاكرة إضافة إلى الترفيه، فظهرت رمزية الإبل في السينما السعودية والقضايا التي تطرحها بوصفها اتجاهاً فنياً درامياً لصناعة سينمائية بهوية سعودية، لها موروث ثقافي خاص بها، ولها قدرة على تعزيز الوعي وإظهار صورة البلد وهويته وموروثه للعالم بما يعزِّز حضور هذه القيمة على المستويين المحلي والدولي، باعتبارها مكوناً أساسياً في البناء الحضاري.
وفيما يتعلقك العلاقة الوجدانية بين الإِبل والعربي التأثير المتبادل في الطبائع بين الإِبل وبين العرب، رأَينا ما يلفت الأَنظار ويستدعي العجب، فقد رأينا شراسة (الناقة) إذا فقدت وليدها، ورأينا كيف أنها إذا غضبت تشبه سلوك بعض البشر.
أما الرسالة الضمنية في الفلمين فهي التي تقول إننا نستطيع أن تغير العالم برؤيتنا وهويتنا الخاصة بنا وفق الأعراف العربية والثقافة التي تعيشها، وهي رسالة عالمية جمعت بين الصحراء والإبل والشعر والإنشاد.
وجميع أوراق المؤتمر كانت توظف الإبل في حياة العربي في سياقات مختلفة منها الواقعي والأسطوري والأدبي والديني والاستثمار المالي والوجاهة وامتلاك الأموال، ومنها اللغوي ولكن كلها أجمعت على أنها من عطايا الرحمن، لذلك كان هذا المؤتمر من أجمل المؤتمرات التي حضرتها في حياتي ويمثل كل التوجهات والتخصصات، فشكراً لخادم الحرمين وولي عهده الأمين على توظيف الموروث الثقافي في حياتنا المعاصرة والمتمدنة، والشكر موصول لكل فريق المؤتمر المنظم فلولا جهودهم لما كان هذا اللقاء علمي ووجداني ويمثل موروثنا خير تمثيل.
بقي أن نخبركم ماذا قال الروبوت (سعود) عندما سألناه عن مؤتمر الإبل في الثقافة العربية، فقد أجاب إجابات مدهشة سنسردها في مقالة تالية، ونختم بما افتتح به فيلم الهّجان بعبارة مكتوبة: (ملحمة عربية طال انتظارها) أما أنا من تكرار مشاهدتي لفيلم الهّجان رأيت أن فيلم (الهجّان السعودي يشبه فيلم الرسالة وعمر المختار في رسالته وإبداعه وتقنياته ...)، ولارتباطي العاطفي بنقش الحنة على يد بطلة ناقة صبغت بطن كفي بصحن العيد، فهي رمز يذكِّرنا بالماضي والطفولة والعيد والجدات والأصالة التي تسير في عروقنا وحب موسوم.
** **
- جامعة الملك سعود