عبدالوهاب الفايز
ورثت الإدارة الأمريكية الجديدة أربع قضايا رئيسية، منها اثنتان في الشرق الأوسط وهما الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي وتداعيات ما بعد غزة، والثانية قضية الملف النووي الإيراني. أما الثالثة فهي الحرب الروسية الأوكرانية، والرابعة ضرورة الاستمرار في احتواء الصين وإيقاف تقدمها، بالذات في الذكاء الاصطناعي.. وقد رأينا الصدمة الأمريكية الحقيقية بعد الإعلان عن برنامج الذكاء الاصطناعي الصيني deepseek.
في هذه القضايا لا يبدو أن هناك حلولا واقعية مقبولة لدى الإدارة الجديدة في شهورها الأولى، فما نسمعه هو مجرد أفكار وتصورات غير واقعية، وأحياناً تهديدات و(تنمر) مهين للشعوب، وتحذيرات غامضة.. وهذه لن تفيد، فضررها أكبر من نفعها. ويبدو - كما قال تشرشل - أن السياسة الأمريكية تظل تتخبط في الحلول ولا تصل إلى الصواب حتى تكون قد خربت أكثر مما أصلحت!
وهذا الذي نراه تخبطا ربما له أهدافه بعيدة المدى. هناك من يضعه في إطار فعل الصواب للمصالح الأمريكية القومية الكبرى. مثلا، النزاع الروسي الأوكراني دفعت به أمريكا لأجل استنزاف روسيا كما حدث مع الاتحاد السوفيتي عندما احتل أفغانستان.
أما الذي يحدث في العالم العربي فهو وضع تديره أمريكا خدمة لمشروع (استنزاف الثروات) من المنطقة ورغبتها في التحكم في سياسات إدارة هذه الثروات. وكل الإدارات المتعاقبة كانت حريصة على النجاح في هذا المشروع منذ أن تسلمت إدارته من قادة المصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة، بريطانيا وفرنسا.
أيضا هناك تفسير ثالث لارتباك المواقف الأمريكية الخارجية أمام العالم. فهناك من يرى أن أمريكا في سياستها الخارجية تقوم على (ثنائية الرجل الطيب والرجل السيئ). في التاريخ الأمريكي هيمنت هذه الثنائية على اللاوعي للذهنية الأمريكية فأصبحت توجه أفعالها وأقوالها، والذي يتابع جلسات الاستماع الحالية في الكونجرس الأمريكي للمسؤولين المُرشحين للمناصب القيادية يلمس هذه الثنائية في مضامين الأسئلة والإجابات، فما يهم هو: كيف يُحقق المسؤولون مصالح الرجل الطيب مقابل مصالح الأشرار!
ومطاردة الأشرار أصبح وقود النزعة الجديدة في توجهات أمريكا للانفراد بالقرار والهيمنة الدوليين.
وهذا مشروع تتبناه المؤسسة السياسية الأمريكية (ديمقراطية او جمهورية)، ويجمع قواه الآن حول حركة (استعادة القوة والعظمة لأمريكا MAGA ). هذه الحركة الجديدة أنتجت قيادات أمريكية مؤمنة بمشروع النسر الأمريكي المحلق الذي يعلو ولا يُعلىَ عليه. هذا المشروع يذكرنا بما توقعه مؤلفا كتاب (الإمبراطورية) أنطونيو نيغري ومايكل هاردت الصادر في العام 2000.
يجادل مؤلفاً الكتاب بأننا لم نعد نعيش في عالم الإمبراطوريات القومية التقليدية، بل في «إمبراطورية» جديدة تتجاوز الدول، تقودها قوى عابرة للقوميات، وتعمل من خلال المنظمات الدولية، والشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية، إضافة إلى الدور الأمريكي المركزي في تشكيل هذا النظام.
لقد توقعا أن يأتي الانتقال إلى الإمبراطورية الجديدة «من غسق احتضار السيادة الحديثة»، أي أن هناك ثوبا عالميا جديدا للسيادة يتشكل يطلقان عليه اسم: الإمبراطورية الجديدة. ويريان أن قيام هذه الإمبراطورية لن يكون كحال الإمبريالية التي استهدفت سيادة دول محددة، فالإمبراطورية الجديدة لا تقوم بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لا تعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. «إنها أداة حكم لا مركزية ولا إقليمية تسعى باستمرار لاحتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة».
ويتوقعان أن تتولى هذه الإمبراطورية «إدارة الهويات الهجينة، والمنظومات التراتبية المرنة والمبادلات المتعددة عبر شبكات وطبقات متباينة من الحكم والقيادة. باتت الألوان القومية المتمايزة لخريطة العالم الإمبريالية متداخلة ومندمجة في قوس قزح العالم الإمبراطوري (قوس قزح العولمة)». ويتوقعان قيام الإمبراطورية الجديدة بعد أن يحدث «انقلاب الجغرافية الإمبريالية الحديثة للعالم، مع تحقيق السوق العالمية نقطة عبور وتحول في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي».
الآن، وبعد مرور ربع قرن تقريبا على هذه الكتاب، نرى فعليا تحول في نمط الإنتاج مع دخول الرأسمالية المرحلة الخامسة وهي: الرأسمالية ما بعد الصناعية، حيث يركز الاقتصاد الحالي على الخدمات والاقتصاد الرقمي أكثر من التصنيع، مع انتشار نماذج اقتصادية جديدة مثل اقتصاد المشاركة والاقتصاد الأخضر المستدام.
وربما هذا الذي يشرح لنا: لماذا النزعة الامريكية المتنامية للتعالي على القانون الدولي، وعلى عدم الاعتراف بالمنظمات الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي لا توافق مصالحها. ما تطرحه الإدارة الجديدة هو امتداد مغالٍ ومتوسع في مسار تجاوز السيادة الوطنية للدول، أي ارتداء الثوب العالمي الجديد للسيادة أو: الامبراطورية الرومانية المتجددة!
والمفارقة أن هذا هو ما يشير اليه المحللون والمعلقون الأمريكان أنفسهم. الرئيس دونالد ترامب، والذي خاطب المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عبر الاتصال المرئي، «تحدث تقريبا مثل إمبراطور القرن الحادي والعشرين الذي أعلن مراسيم لأمرائه»، هذا ما قاله ديفيد إجناديوس أحد كتاب الواشنطن بوست. وقال إن ترمب وصل «عصر ذهبي» جديد، عندما «بدأ في إصدار الإملاءات لتأطير النظام العالمي الجديد».
بالنسبة لنا في العالم العربي، الامر المزعج أن سياسات امريكا المرتبكة والمتخبطة تضع قيادات المنطقة في حرج أمام شعوبها. نحن نقدر أن قضايا المنطقة صعبة للغاية ويؤثر فيها تدخلات خارجية متعددة. والسلوك المرتبك يجعلنا لا نتوقع اهتمام أمريكا الجاد والعادل في قضايا المنطقة. لذا لن ننتظر مواقف إيجابيةً تتطابق مع مصالح شعوب المنطقة. هناك خطوط حمراء لمصالح الشعوب يُفترض احترامها. حاليا، تجاوز هذه الخطوط يُحدث صدمة لشعوب المنطقة حين ترى الإدارة تبدي اهتماما غريباً بمصالح إسرائيل وتحث نتانياهو على مواصلة التطهير العرقي وإخلاء غزة من السكان، وترحيلهم إلى الأردن ومصر!
هل الهدف من طرح قضية التهجير في هذا الوقت هو لأجل اغلاق باب الحديث حول الدولة الفلسطينية تحقيقا لما يريده نتانياهو واليمين المتطرف في حكومته؟ هل هو لأجل كسب الوقت لاستمرار فرض الامر الواقع وتحويل الضفة الغربية إلى جحيم اخر للفلسطينيين؟! هل الهدف هو توسيع حجم المشكلة حتى تكون مساحة المناورة مفتوحة للمفاوضات الطويلة؟ أي استمرار لعبة الصهاينة الكبرى!
المؤسف أن الإدارات الامريكية المتعاقبة ظلَّت تتعامل مع المنطقة بما يخدم المصالح الامريكية أولا، ثم المصالح الاسرائيلية، ومؤخرا بما يخدم المصالح الإيرانية، وتجلى هذا وتسامى بعد احتلال العراق وتسليمه الي مشروع ولاية الفقيه. لقد أسهم هذا في إضعاف مواقف الدول العربية أمام حروب نتانياهو، وشروط إملاءات واشنطن.
الأمر المؤكد أن بقاء مصالح أمريكا الحالية والقادمة يتوقف على قدرتها على بناء علاقات الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة. والعالم اليوم لم يعد عالم القوة الواحدة الذي تُفرض فيه سياسات القوة والهيمنة على الشعوب. الحراك السياسي والاقتصادي للشعوب في أفريقيا واسيا فرض واقعا جديداً لن يسمح باستمرار هيمنة المصالح الغربية الاستعمارية على الشعوب التي بدأت تتنفس الحرية وتخرج من هيمنة الدول الغربية.
كما أن رغبة أمريكا وحلفائها الغربيين لاحتواء الصين وتركيع روسيا يتطلب منهم التعاون القوي مع الحلفاء والأصدقاء، وليس الانقلاب والتنمر والسعي للهيمنة المطلقة. مع الأسف أن السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة أصبح يسيطر عليها توجهات وتصورات تفتقد التنوع في الآراء والأفكار. وهذه ملاحظة كررها في الفترة الأخيرة جون ميرشايمر أستاذ العلاقات والدولية وأحد منظري الواقعية السياسية المعاصرة. فالمؤسسة التي تقود صناعة توجهات سياسة أمريكا الخارجية - في راي ميرشايمر - اصبحت أُحادية النظرة هدفها الوحيد تغليب استخدام القوة العسكرية وإذكاء الحروب والصرعات.
وهذه الأحادية نراها أمرا غريبا في دولة تقود الديمقراطية الليبرالية الغربية لأنها تستبعد كل الأصوات التي ترى مسارا اخراً لحل الصراعات والأزمات وهو استخدام الدبلوماسية والحوار، أي استخدم أدوات القوة الناعمة. وفي رأيه أن الرئيس دونالد ترامب يميل إلى هذا المسار وهو كما يقول بمثابة (نسمة هواء جديده) في خطاب رموز وصقور صناع السياسة الخارجية داخل الدولة البيروقراطية العميقة. وهذا ما نأمله أيضا في المنطقة، ترمب طرح مشروع انهاء الحروب في الشرق الأوسط. لعله يحققه.