د. داليا عبدالله العمر
في خضم الصخب المتزايد على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يكاد يمر يوم دون جدالات محتدمة بين تيارات «نسوية» و»ذكورية»، يتراشق فيها الطرفان اتهامات مبالغًا فيها ومعممة. وأكثر ما يلفت الانتباه في هذا المشهد هو الكم الهائل من الحسابات التي نصّبت نفسها أعداءً للنسوية، تهاجمها في كل مناسبة، وتتهمها بأنها السبب في انهيار القيم، وتفكك الأسر، وإضعاف السلطة الذكورية.
تساؤل بسيط يتبادر إلى الذهن: ما هي النسوية أصلًا؟ وكيف يمكن لهؤلاء مهاجمتها دون فهم دقيق لأصولها وتعريفها؟ وهل النسوية بالفعل ترفع من شأن المرأة، أم أنها مصطلح دخيل يحمل في جوهره تنازلًا عن كثير من الحقوق التي كفلها الإسلام لها قبل قرون؟
ولا يمكن الحديث عن النسوية في بلادنا المملكة العربية السعودية دون استحضار السياق التاريخي الذي غذّى حاجتنا للعدالة. ففي فترة الثمانينات وما قبلها وأحياناً وما بعدها، وتحت مظلة ما يُعرف بالصحوة، شهدت المملكة موجة تشدد ديني أثّرت كثيرًا على واقع المرأة. تم تقييدها في شؤون الطلاق والخلع، وحُرمت من الدراسة والعمل في كثير من المجالات، بل احتاجت لموافقة ولي الأمر في كل صغيرة وكبيرة، حتى لو كانت امرأة ناضجة في الستين من عمرها.
كانت هناك حالات تُعلّق المرأة لسنوات في قضايا الطلاق، وتُحرم من الوضوح القانوني في مصير أبنائها بشأن الحضانة. كما وُجدت حالات يُقرر فيها ولي الأمر تخصص المرأة الدراسي رغماً عنها، وزواجها، وحتى عملها. حُجِّمت كذلك من ممارسة الرياضة أو العمل في بيئات محترمة بحجة الاختلاط، رغم التزامها بالحشمة.
كل هذه الممارسات، رغم أنها ليست من الدين في شيء، إلا أنها صدرت بعباءة دينية. فكانت النتيجة: ردة فعل قوية ومضادة، ظهرت على هيئة موجة نسوية محلية، تسربت إلينا محاولةً استعادة التوازن. لكن المؤسف أن بعض هذه الردود لم تُبنَ على خطاب إسلامي منصف، بل استوردت مفاهيم غربية بعيدة كل البعد عن واقعنا وديننا.
وفي خضم السجالات المعاصرة حول مفهوم النسوية، تتجلى الحاجة إلى العودة إلى الأصل: ما الذي قدّمه الإسلام للمرأة؟ وهل فعلاً تحتاج المرأة المسلمة إلى استيراد مفاهيم غربية لنيل حقوقها، وهي التي نالت تكريماً ربانياً منذ أربعة عشر قرناً؟
عند الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه، نكتشف أن الإسلام لم يُعطِ المرأة «حقوقاً متساوية» مع الرجل فحسب، بل منحها خصوصية شرفها بها، فميزها دون تحميلها ما لا طاقة لها به.
ومن أبرز ما أعطاه الإسلام للمرأة:
- الاستقلالية المالية والشخصية: من أوائل ما قرره الإسلام للمرأة هو امتلاك ذمة مالية مستقلة، تتصرف فيها كما تشاء دون وصاية أحد. مالها لها، وهي حرة في قراراتها الشخصية والمصيرية، وتؤتمن على نفسها ودينها وبيتها وزوجها. قال تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 4)، وقد أجمع العلماء أن الرجل لا يملك شيئاً من مال زوجته أو ابنته أو أخته، إلا برضاها التام دون ضغط.
- حق الميراث مع عدم إلزامها بالنفقة: المرأة ترث في الإسلام، لكن لا يُلزمها الشرع بالنفقة، لا على نفسها ولا على أحد، حتى وإن كانت غنية. في المقابل، يُلزم الرجل بالنفقة الأساسية عليها من مأكل ومشرب ومسكن مدى الحياة - أباً أو أخاً أو زوجاً - ولو كانت أغنى منه. قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11).
لكن هذا التفاوت في الميراث ليس نقصًا في قدرها، بل عدلٌ في التكليف، إذ يتحمل الرجل كامل المسؤوليات المالية، بينما يكون ما ترثه هي حقًا خالصًا لها. وإن قصّر وليها أو زوجها في ذلك، فهو آثم شرعًا.
- حق المهر والمعيشة الكريمة: أوجب الإسلام للمرأة مهراً خاصاً بها عند الزواج، وألزم الزوج بالإنفاق عليها بما يناسب مستواها الاجتماعي والمعيشي الذي تعوّدت عليه في بيت أهلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (رواه الترمذي).
بل ذهب بعض العلماء - كالمالكية - إلى أن الزوج ملزم بتأمين خادم إن كانت هي من أهل الرفاهية، أو ممن اعتادت وجود من يخدمها في بيت أهلها، صوناً لكرامتها ورفعًا للمشقة عنها.
- حق الخلع والفسخ: لا يُجبر الإسلام المرأة على العيش مع من لا تُحب، فإن كرهت زوجها، فلها أن تخلع نفسها منه وترد مهره، أو تفسخ العقد إن ثبت له عيب أخفاه. عن امرأة ثابت بن قيس قالت: «يا رسول الله، لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام».
فقال صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، قال: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» (رواه البخاري).
- حق العمل بشروط تحفظ كرامتها: المرأة في الإسلام ليست عاطلة عن المشاركة المجتمعية، بل يُقرّ مشاركتها ما دامت في الإطار الشرعي. وإذا اشترطت في عقد الزواج أن تعمل، وجب على زوجها الوفاء بذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (رواه أبو داود).
والشرط في عقد النكاح مُلزم، سواء تعلق بالعمل أو السكن أو غيره، ما لم يخالف الشرع.
- تنظيم التعدد لحماية المرأة والمجتمع: التعدد في الإسلام لم يُشرع لتلبية رغبات الرجال فقط، بل كحل إنساني لحالات خاصة: كمرض الزوجة، أو عقمها، أو كثرة الأرامل، أو المسؤولية عن أيتام. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3).
ولو كان التعدد رفاهية ذكورية فحسب، لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا - إلا امرأة واحدة بكراً، لكنه لم يتزوج بكراً سوى عائشة، بينما باقي زوجاته كن أرامل أو مطلقات، وبعضهن أكبر منه سناً. كان زواجه تكافلياً، يرعى فيه ضعيفات النساء، ولحكمة أرادها المولى. ونحن على سنته نقتدي.
- الأصل في الزواج واحدة: من حكمة الله تعالى أنه خلق لآدم حواء واحدة، رغم أن الأصلح لتكاثر البشرية في بدايتها كان أن يكون له أكثر من زوجة. لكن عدل الله اقتضى أن يكون الأصل في الزواج زوجة واحدة، وأن يكون التعدد استثناءً مبنيًا على الضرورة والعدل، لا على الشهوة والهوى.
- القوامة: مسؤولية وتكليف لا تسلط: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34).
القوامة ليست تشريفًا، بل تكليف، فيها واجب الإنفاق والرعاية والحماية، لا التسلط أو القهر. فإن أهمل الرجل قوامته، أو قصر في حقوق زوجته، فهو آثم أمام الله.
- حق القبول والرفض في الزواج: الإسلام أعطى المرأة حق القبول أو الرفض في الزواج، ولا تُجبر على من لا تريده. جاء في الحديث: «لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن» (رواه البخاري). ورفضها للخاطب، سواء كان فرداً أو معدداً، لا تُؤثم عليه، فلها كامل الحرية في قراراتها. كما منحها الإسلام الحق في إنهاء عقد الزواج بالخلع أو الفسخ إن لم تجد فيه راحة، أو اكتشفت ما لا يُطاق، دون أن تُلام على ذلك.
خاتمة:
حين نفهم الإسلام كما ينبغي، ندرك أن المرأة ليست بحاجة إلى استيراد فلسفات نسوية تُنتج امرأة مرهقة، تعمل وتنفق وتُطالب بكل شيء، لكنها في النهاية تُترك وحيدة أمام الحياة. الإسلام منحها من الحقوق ما لا تجده في أي فلسفة وضعية، وحين يُطبّق هذا الدين كما أراده الله، فلا حاجة بنا للنسوية ولا لردود فعلها. بل نحتاج إلى وعي عميق، يعيدنا لجمال هذا الدين وإنصافه.
ولله الحمد، نعيش اليوم في ظل إصلاحات اجتماعية حقيقية أعادت للمرأة الكثير من حقوقها، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله ووفقهما لكل خير. لقد أُعيد التوازن، وتحققت العدالة، ولم يعد الدين يُستخدم أداة للوصاية، بل بوابة للتحرر النبيل. فهل نرضى بالعدالة الربانية، أم نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61).