عبدالوهاب الفايز
عندما قلنا الأسبوع الماضي إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب (ما يقدح من رأسه)، أي هو يقود مشروع جديد للهيمنة والتوسع للنفوذ الأمريكي العالمي، هذا المشروع اتضحت معالمه الكبرى بعد استثناء الصين من إيقاف تطبيق الرسوم لمدة ثلاثة أشهر. الصين تُقدَّم الآن على أنها العدو الأول والمنافس الأكبر الذي يسعى لأخذ مكانة أمريكا في العالم. وأمريكا هدفها الاستراتيجي هو: الانفصال الاقتصادي Economics De-coupling، الذي يتمّ ضبطه عبر تكتيكات ومناورات تحقق الانفصال الاقتصادي بين البلدين التدريجي الذي يراعي الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية المحلية الأمريكية.
الصين هي العدو الذي تحتاجه الرأسمالية الأمريكية التي راكمت الثروات بصورة غير مسبوقة، ففجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء اتسعت ولا يمكن التستر عليها وحجبها عن غالبية الجماهير إلاّ باختراع عدو يُقدم على أنه سارق الأسواق والناس، والمهيمن على الصناعة.
إزاحة أسباب المشاكل المالية إلى عدو خارجي سلوك طبيعي للرأسمالية الأمريكية، فهي تحتاج الأعذار والأسباب لممارسة القوة والوصول إلى أهدافها الكبرى. عندما سقطت الشيوعية تم اختراع الحرب على الإرهاب العالمي الإسلامي، وحين استنفد هذا المشروع أهدافه وتم تدمير الشرق الأوسط، واتضح للشعب الأمريكي أن هذا المشروع كذبة كبرى، تطلب الوضع طرح مشروع الحرب والمواجهة مع الصين.
تطبيقات هذه المواجهة المعلنة الآن ستكون في قائمة أولويات وشروط ومساومات المفاوضات الثنائية التي تسعى إليها أمريكا لإعادة كتابة وتعريف النظام الدولي الجديد بعد التخلي عن منظمة التجارة العالمية. علاقة جميع الدول مع الصين سوف تكون مطروحة في المفاوضات، فالدول التي لديها علاقات تجارية وسياسية جيدة مع الصين سوف يُطلب منها التخلي عن هذه العلاقات مقابل الحصول على الميزات التجارية.
مبدأ التفاوض على أساس (معنا أو مع الصين) سيكون إشكالية للدول التي بنت علاقات متميزة مع الصين. آلية المفاوضات الثنائية المشروطة سوف تضع الدول، بما فيها دول الخليج العربي، أمام خيارات معقدة. فبكين، التي تستورد حوالي 60 % من نفطها من الخليج، باتت شريكًا لا غنى عنه للمنطقة، بينما تظل أمريكا حليفًا أمنيًا وتجاريًا رئيسيًا. فكيف ستتأثر شراكات الخليج في النفط والتكنولوجيا؟ وهل يمكن الحفاظ على التوازن في عالم منقسم؟
ما يعمق المخاوف هو استمرار المواجهة وانتقالها إلى مرحلة جديدة. بدأت التوترات التجارية بين واشنطن وبكين تتصاعد عام 2018، عندما فرضت إدارة الرئيس دونالد ترامب رسومًا جمركية على بضائع صينية بمئات المليارات من الدولارات، بهدف تقليص العجز التجاري، الذي بلغ 419 مليار دولار آنذاك. ردت الصين بإجراءات مماثلة، مما أثر على سلاسل التوريد وأسعار السلع عالميًا. وإن كان العجز قد انخفض إلى حوالي 300 مليار دولار بحلول 2024، فإن الصراع تحول إلى مواجهة على النفوذ العالمي.
الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وبلغت قيمة صادراتها في عام 2024 نحو 3,58 تريليونات دولار، وهي شريك تجاري رئيسي لأكثر من 120 دولة. لإيقاف هذا التفوق.. أمريكا تعتقد أن بيدها فرصة لتأكيد هيمنتها عبر إعادة صياغة قواعد التجارة الدولية عبر التركيز على قطاعات استراتيجية مثل النفط والتكنولوجيا.
لذا، وفي سبيل هذه المواجهة لإعادة تعريف النظام الدولي، تطرح القيادة الأمريكية نهجاً جديداً في علاقاتها الخارجية. السياسة الخارجية الأمريكية اليوم لا تسير وفق خط أيديولوجي صرف، ولا تتحرك بمنطق عابر للحدود فقط، بل هي مزيج معقد بين الاثنين. ففي دعمها لأوكرانيا، نرى خطابًا أيديولوجيًا واضحًا حول الدفاع عن «النظام الدولي الديمقراطي». وفي جبهات أخرى نرى اعتمادًا كبيرًا على آليات عابرة للحدود مثل: العقوبات المالية، التحالفات التكنولوجية، الحرب المعلوماتية، ودور الشركات في تأمين البنية الرقمية. هذا التداخل يعد مشكلة للأصدقاء والشركاء حيث يضعف وضوح المنهج الأمريكي، ويساهم في زيادة تعقيد البيئة الدولية المعاصرة. هذه البيئة: هل نفهمها بمنطق الدولة القومية التقليدية فقط، أم بتصورات وأفكار الحرب الباردة الجديدة.
منذ ولايته الأولى تبنى ترامب ممارسات أدت إلى إضعاف دور منظمة التجارة العالمية. أمريكا تفضل المفاوضات الثنائية لتشكيل نظام دولي جديد. هذه المفاوضات تحمل رؤية واضحة: تقليص النفوذ الصيني مقابل امتيازات تجارية مثل إعفاءات جمركية أو استثمارات مباشرة. لكن هذا النهج يضع الدول التي طورت شراكات قوية مع بكين أمام تحدٍ استراتيجي، خصوصًا في مناطق مثل الخليج العربي، حيث النفط والتكنولوجيا يشكلان محور التعاون مع الصين.
دول مثل كوريا الجنوبية وأستراليا تواجه ضغوطًا مماثلة لإعادة تقييم علاقاتها التجارية. لكن الخليج، بموقعه الفريد كمصدر رئيسي للطاقة ومركز طموح للتكنولوجيا، يواجه معضلة أكثر تعقيدًا.
هل تأثير الصراع على دول الخليج العربي مقلق؟
دول الخليج العربي لن تكون معزولة عن تداعيات هذا الصراع. الصين تستورد حوالي 60 % من احتياجاتها النفطية من الخليج، مما يجعلها الشريك التجاري الأول للمنطقة. فالسعودية، على سبيل المثال، تصدر نحو 30 % من نفطها إلى بكين، بينما تستفيد الإمارات من اتفاقيات بقيمة 30 مليار دولار في الطاقة والبنية التحتية ضمن مبادرة «الحزام والطريق».
في الوقت نفسه، يمتد التعاون الصيني إلى التكنولوجيا. تساهم شركات مثل «هواوي» في نشر شبكات 5G في الإمارات والسعودية، بينما تدعم استثمارات صينية مشاريع الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، وهي ركائز أساسية لمبادرات التنويع الاقتصادي في الخليج. لكن الضغوط الأمريكية للحد من هذه الشراكات، خاصة في مجال التكنولوجيا بسبب مخاوف الأمن السيبراني، تضع المنطقة أمام تحدٍ كبير.
إذا استجابت دول الخليج لهذه المطالب، قد تخسر استثمارات صينية تدعم اقتصاداتها غير النفطية. على سبيل المثال، أي تراجع في الطلب الصيني على النفط بسبب التوترات التجارية قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار، مما يضر بإيرادات الخليج. في المقابل، الحفاظ على الشراكة مع بكين قد يثير مخاوف واشنطن، التي تظل الحليف الأمني الرئيسي للمنطقة، مما يهدد صفقات الأسلحة أو التعاون الاستراتيجي. هذا الوضع يدفع دول الخليج للسعي إلى توازن دقيق. لكن تبقى حدة الاستقطاب المتزايدة متغير رئيسي يعقد ويحد من خياراتها.
خارج الخليج، تواجه دول أخرى تحديات مماثلة. في إفريقيا، جذبت مبادرة «الحزام والطريق» استثمارات صينية بقيمة تريليون دولار عبر قارات متعددة، لكن دولًا مثل كينيا وإثيوبيا قد تُطالب بالتخلي عن هذه الشراكات مقابل الوصول إلى الأسواق الغربية. حتى الدول الأوروبية، مثل ألمانيا التي تعتمد على الصين كسوق رئيسية لصناعاتها، قد تجد نفسها تحت ضغط مماثل.
السؤال المركزي يبقى: كيف يمكن للدول الحفاظ على مصالحها في ظل عالم يميل إلى الانقسام؟
الحرب التجارية بين أمريكا والصين ليست صراعًا اقتصاديًا فحسب، بل محاولة لإعادة صياغة النظام الدولي. دول الخليج، بما تملكه من نفط وطموحات تكنولوجية، تقف على مفترق طرق: هل تُضحي بشراكتها مع بكين لتعزيز تحالفها مع واشنطن، أم تسعى للتوازن بين الطرفين؟ إن مستقبل التعاون العالمي يعتمد على قدرة الدول على تجاوز هذه المواجهة بالحوار بدلاً من وضع الشروط. ويتكرر التساؤل: هل يمكن بناء نظام دولي يتسع للجميع، أم أننا نسير نحو عالم أكثر انقسامًا؟
نحن في حقبة تتقاطع فيها القوى الكبرى المحركة للتاريخ. حقبة ممتعة ومخيفة حين التأمل والتدبر!