د. علي معاضة الغامدي
إن العلم، في جوهره رحلة استكشافية متواضعة أمام عظمة الكون وأسراره؛ فكلما تعمقنا في فهم قوانينه ازداد إدراكنا لحدود علمنا، وتأكدنا أن ما نعلمه قليل أمام ما لم نعلمه بعد. هذه الروح المتواضعة هي الوقود الحقيقي الذي يدفع عجلة التقدم العلمي، وهي السمة البارزة للعلماء العظام عبر التاريخ. لذا، فإن وُضوح المعلومة أمانة ومسؤولية أساسية تقع على عاتق كل باحث وعالم. فكما قيل: كلما ازددتُ علما.. زادني علماً بجهلي. تخيل لو أن هذه المقدمة كُتبت بلغة مركبة مقعرة - لأي سبب كان - ألا يثير ذلك تساؤلاً حول الهدف الحقيقي من وراء الكتابة؟ هل هو بالفعل إيصال المعلومة للقارئ بغرض الفائدة والتواصل الحقيقي؟
في المقابل، يقف عائق كبير أمام هذا التقدم يتمثل في الشعور الزائد بالذات والتعالي الفكري. فالشخص الذي يرى نفسه مركز الكون المعرفي (ولن أقول كلمة أخرى)، قد يحتقر آراء الآخرين ويتعالى على فهم الجمهور، قد يسعى جاهداً للإبهار بلغة معقدة وكأنها سجع الكهان (المذموم في القرآن الكريم) -لا تخدم سوى إبراز الذات، وقد يتعمد أحياناً تقديم المعلومة بشكل مشوش ليظل في دائرة الضوء كـ»الخبير» الذي يصعب فهمه.
هذه السلوكيات ليست فقط غير أخلاقية، بل إنها تعيق نشر المعرفة الحقيقية وتزيد من صعوبة وصول المعلومة الصحيحة للناس، أو قد تُنفرهم من متابعة الموضوع المطروح.
من الطبيعي جداً أن يختلف العلماء في آرائهم ووجهات نظرهم، وهذا الاختلاف هو في صميم عملية البحث العلمي ويدفع نحو مزيد من التدقيق والتمحيص.
لكن المشكلة تظهر عندما يقوم بعض الأشخاص الذين يركزون بشكل مفرط على ذواتهم بكتابة أبحاث أو طرح أفكار تفتقر إلى الوضوح اللازم، وعندما يتم الرد عليهم أو مناقشة أفكارهم، فإنهم قد يلجأون إلى أساليب مختلفة لتحوير مسار النقاش، وتغيير محاوره الأساسية، وتحويل القضية إلى خلاف شخصي. هذا السلوك غالباً ما يكون ناتجاً عن عدم الالتزام بالوضوح الذي يعتبر من أساسيات الأعراف الأكاديمية والعلمية، حيث أن الغموض في الطرح يفتح الباب للتأويلات المتعددة ويصعب الوصول إلى فهم مشترك وتقييم موضوعي للأفكار. وفي الحقيقة، تتجلى المشكلة عندما يبدأ كل طرف بالقول: ليس هذا ما أقصده؟! في حين أن الواجب أن يكون النص العلمي المختلف عليه واضحا بما فيه الكفاية – وحتى لو كان بليغا - وهو الأساس المرجعي للنقاش، وليس كما يقال: المعنى في بطن الشاعر؟!
ومن المفارقات العجيبة أن هؤلاء الذين يسعون دائماً للإبهار والظهور بمظهر العارف بكل شيء، غالباً ما يجدون أنفسهم مهمشين بشكل أو بآخر. فهم لم يتركوا بصمة حقيقية في تخصصاتهم، ولم يقدموا إسهامات جوهرية تخدم مجتمعاتهم العلمية.
إن التركيز المفرط على الذات والتعالي على الآخرين يعيق قدرتهم على التعاون البناء، ويحول بينهم وبين الانفتاح على الأفكار الجديدة والنقد البناء، وهما أساس التقدم العلمي الحقيقي؛ لذا، فغالباً ما تبقى أسماؤهم غير معروفة في المحافل الدولية، وتبقى أعمالهم حبيسة الأدراج المحلية، شاهدة صامتة على أن التواضع هو مفتاح التأثير الحقيقي والدائم في عالم العلم.
ومن المنظور الإسلامي – وهذا الأهم-، يعتبر التواضع من أجلّ الأخلاق، بينما يُعد الكِبر من أشدّ المهلكات.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18). ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». فالكبر هنا يتجلى في احتقار الناس وعدم قبول الحق، وهو ما يفعله من يتسم بالتعالي الفكري في تعامله مع الآخرين ومع الحقائق العلمية التي قد تتحدى «عظمته».
إن العالم الحقيقي هو الذي يزداد تواضعاً كلما ازداد علماً، يحرص على تبسيط المفاهيم وتقديمها بوضوح ليستفيد منها الجميع. يتذكر دائماً أن الهدف من العلم هو إفادة البشرية لا التباهي والتفاخر.
خذ مثالاً من الموجودين الآن العالم إدوارد تافت، المتخصص في عرض المعلومات بشكل بصري، لقد كرس حياته لجعل البيانات المعقدة مفهومة للجميع، رغم استخدامه مفاهيم علمية عميقة، مؤمناً بأن وضوح المعلومة هو حق للجميع وليس حكراً على النخبة. إن منهجه يجسد قمة المسؤولية العلمية، حيث يركز على إيصال المعلومة بأكثر الطرائق فعالية بدلاً من استعراض المعرفة.
أما من العلماء الكبار السابقين، فلا يمكن تجاوز اقتباس نيوتن الشهير: «إذا كنت قد رأيت أبعد فذلك بوقوفي على أكتاف العمالقة» يعكس تواضع أينشتاين الذي كان يقدره ضمن إطار احترامه العميق لعمل نيوتن التأسيسي. أما نيوتن فيقول: «لا أعرف كيف قد أبدو للعالم، لكني أرى نفسي كصبي صغير يلهو على شاطئ البحر، بينما محيط عظيم من الحقيقة يمتد أمامي ولم يُكتشف بعد.» وقبلهم علماء المسلمين، مثل الشافعي في قوله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.»
يشهد العصر الحديث اهتماماً متزايداً من قبل العلماء بأهمية وضوح اللغة والدقة في تقديم نتاجهم العلمي، مع التركيز بشكل خاص على خدمة العلم والمجتمع. هذا التوجه يظهر جلياً في مبادرات العلم المفتوح التي تهدف إلى نشر الأبحاث على نطاق واسع وجعلها متاحة للجميع، مما يعكس الرغبة في تعظيم الفائدة من المعرفة، كما نرى ذلك في الجهود المتزايدة في مجال التواصل العلمي، حيث يسعى العلماء إلى شرح مفاهيمهم وأبحاثهم للجمهور بلغة مبسطة وواضحة، إدراكاً منهم لأهمية بناء جسر من الفهم بين المجتمع العلمي وعامة الناس.
ويولي العلماء اهتماماً خاصاً للتنظير العلمي الذي يقف وراء التقنيات الحديثة وتدفق المعلومات، فمثلاً، التطورات الهائلة في مجال الذكاء الاصطناعي لم تكن ممكنة لولا التنظيرات الرياضية والمنطقية الواضحة التي وضعت أسس هذا العلم. كذلك، فإن الشفافية المتزايدة في نشر البيانات والمناهج البحثية تعكس التزام العلماء بالدقة وتمكين الآخرين من التحقق من نتائجهم والبناء عليها. هذا التركيز على الوضوح والدقة والخدمة يعكس روح المسؤولية العلمية، حيث يضعون نصب أعينهم هدف إفادة البشرية ونشر المعرفة الحقيقية، وهو ما يتناقض مع النزعة «الفوقية» التي قد تدفع البعض إلى التعقيد اللغوي بهدف الإبهار الذاتي بدلاً من تحقيق الفائدة العامة.
إن التعامل مع الناس على أنهم «جهلاء» هو قمة الاستعلاء الفكري، في حين أن العالم المتواضع يسعى لتمكين الناس بالمعرفة، لا استغلال جهلهم لتعزيز صورته الذاتية. مهمتنا كعلماء ومثقفين هي بناء جسور من الفهم لا إقامة حواجز من التعقيد؛ فالعلم نور، والنور لا يضيء إلا إذا انتشر بوضوح ويسر. فلنتخلَّ عن التعالي الفكري ولنتسلح بتواضع العلماء، لننشر العلم نوراً يهدي لا ناراً تحرق.
وأخيرا، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ما نقَصت صَدقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ رجلًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضعَ أحدٌ للَّهِ إلَّا رفعَهُ اللَّهُ. ونسأل الله العفو والعافية والصلاح.