د. عبدالحق عزوزي
كلما زرت مدينة تولوز Toulouse الفرنسية (المدينة التي ناقشتُ فيها الدكتوراه وتابعت فيها جزءاً من دراساتي العليا في الاستراتيجية والعلاقات الدولية والعلوم السياسية) أو أي مدينة أوروبية أخرى، إلا وزرت مكتبات المدينة وخزانة الجامعة. وكلما زرتها إلا وتزداد قناعتي بأن الغربيين كل يوم يكتبون، ودور النشر العالمية تصدر كتباً يومياً، وأن الإنسان الغربي بدءاً من المثقف وصولاً إلى الإنسان العادي يقرأ، وذلك ديدنه في بيته وفي وقت الاستراحة عندما يعمل، وفي وسائل النقل العمومية (وإذا سمعت ضجيجاً فغالباً ما إذا استرقت البصر ستجده صادراً من أناس ذوي أصول عربية) بل وحتى في الطريق والإنسان يمشي! هاته حقيقة ولا يمكن تجاهلها. ولهذا تمكن الغرب من تبطين العلم والثقافة والبحث العلمي المتطور في أعلى تجلياته في نفوس وأفئدة مواطنيه، واستطاع رغم أزمة القراءة العالمية من مأسسته لبنات المعرفة المتنوعة.
كنت ذات مرة في مكتبة (Ombres Blanches) (الظلال البيضاء) في تولوز، وبدأت أتصفح كتب ما استجد في مجال العلاقات الدولية والعلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ والديانات، فإذا بسيدتين تقفان أمامي وبدأتا تتجولان في رواق الإسلام؛ وبحكم لون شعري الأسود وبنوعية بذلتي التي توحي بصفتي الجامعية، سألتاني عن كتاب أنصحهما به عن الإسلام ليكون مرجعاً لتلامذتهما الصغار في المدرسة الابتدائية، لأنه مفروض عليهما حسب ما أسرتا إلي تدريس كتاب عن الإسلام، وآخر عن اليهودية، وآخر عن النصرانية.
بدأت أطرح على نفسي قبل أن يرتد إلي طرفي مائة سؤال، أولاً لأن المعنيين هن معلمات مربيات وهم أيضاً تلامذة، حيث كل ما سيسجلونه في هذا العمر سيبقى راسخاً في أذهانهم إلى يوم الدين، وثانياً فكل ما يكتب من الغربيين عن الإسلام غالباً ما يكون فيه تحريف وتضليل، وثالثاً وهي الطامة الكبرى فقليلاً ما يكتب المسلمون ذوو القلم والعلم بلغة «موليير» أو «شكسبير» بالطريقة المثلى التي يجب كتابتها عن الإسلام، فوجدت نفسي في حيرة، فلا يمكن ما يوجد من منشورات أن يشفي غليل لا الأستاذتين ولا التلامذة، لأن ما يمكن أن يحتاجهما التلامذة في هذه السن هو كتاب من طينة ما كتبه شاتوبريان Chateaubriand في القرن الثامن عشر عن (le génie du Christianisme) (عن نبوغ النصرانية) وهو مكتوب بأسلوب أدبي جذاب قل نظيره، لذا يوضع في خانة الكتب الأدبية المعتمدة التي تدرس، وفي خانة الكتب الدينية عن النصرانية، بل إذا تصفحت المعاجم الفرنسية فإنه لما تشرح الكلمات الفرنسية فغالباً ما يتم اقتباس جمل بعينها من هذا الكتاب التي تطعم المعنى، ثم لا تنبهر إذا وجدت هذا الكتاب مازال يوجد ويباع بالآلاف ويقرأه الخاص والعام بدءاً من رئيس الدولة وصولاً إلى التلميذ في المدرسة. هذا الذي نحن في حاجة إليه إذا أردنا أن نعطي صورة صحيحة وبراقة عن الإسلام؛ كتاب بالفرنسية والإنجليزية يكتب عن الإسلام بهاته الحرفية وهذا الأسلوب وهاته المنهجية، يحكي الوقائع والتاريخ ويعطي الأمثلة ويصف السماحة والوسطية وبفكر يتماشى مع متطلبات «السوق الثقافية». فالذين يكتبون اليوم عن الإسلام في الغرب إما غربيون أو مسلمون يزاولون في المجتمعات الغربية ينسخون على منوال زملائهم، ويتحولون مع مرور الوقت إلى أناس يرفضون مجتمعاتهم الأصلية جملة وتفصيلاً، وهذا ما يمكن أن نسميه «بعقدة المثقف»، أو لنقل هي ازدواجية عند هؤلاء المثقفين ذوي المشاعر المضطربة مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يتحولون إلى شخصيات غير متلائمة مع مجتمعات المنشأ المتخلفة، فيقعون في أزمة شخصية.
زرت في سفري هذا وفي يوم السبت (حيث الباحثون والطلبة في هذا الوقت يكونون قلة) خزانة الأرسونال Arsenal التابعة لجامعة العلوم الإنسانية Université des Sciences Sociales في تولوز، وجاءني طالب من أصول إفريقية سيكمل الدكتوراه في الجامعة، وكنت قد درَّسته في جامعة فاس، تمثل معي ما كنت أقول لهما ولكل طلبتي في بداية كل موسم جامعي: «كونوا جميعاً فئران الخزانات والمكتبات»، التغيير ممكن في وطننا العربي، والتأثير على العقول يأتي منا نحن المدرسين والجامعيين والآباء أي المجتمع.