أ.د.صالح معيض الغامدي
من الموضوعات الطريفة والجديرة بالدراسة في السيرة الذاتية موضوع «سرد مرحلة التقاعد في السيرة الذاتية» فهذه المرحلة العمرية مرحلة حيوية ومربكة في آن معاً، تتضارب فيها العواطف والانفعالات والرغبات، وربما تذكرنا في حيويتها وجاذبيتها بمرحلة الطفولة.
ولعل من المهم أن نذكر هنا أن كثيراً من كتاب السيرة الذاتية يكتبون سيرهم الذاتية في هذه المرحلة.
وكنت قد أشرت إلى هذه المرحلة في مقالة سابقة لي بعنوان «السيرة الذاتية الجيلية» قلت فيها إن هذه المرحلة تحظى بنصيب وافر في السير الذاتية بشكل عام وفي السير الذاتية السعودية بشكل خاص، وغالباً ما يكون سرد هذه المرحلة تأكيداً للمنجزات التي حققها كتابها أو تبريراً لبعض الأعمال التي قاموا بها أو التي لم يقوموا بها، أو نقداً لبعض الجوانب والتجارب الحياتية التي وجد الكتاب أنفسهم في حل من نقدها بعد أن تقاعدوا.
كما ذكرت بأن سرد هذه المرحلة يتضمن أحياناً بعض النصائح التي يوردها بعض كتاب السير الذاتية للقراء، إذ كثيراً ما يذكر هؤلاء الكتاب أن القراء (أو الأصدقاء أو الأبناء) هم من كان السبب الرئيس في دفعهم وتشجيعهم على كتابة سيرهم الذاتية ابتداء.
والحقيقة أن مرحلة التقاعد تُعدّ من أفضل المراحل العمرية لكتابة السيرة الذاتية الحياتية لعدة أسباب، سأسرد أهمها في هذا المقال.
فكتاب السيرة الذاتية في هذه المرحلة يمتلكون الخبرة الحياتية الثرية والنضج والحكمة.
فعادة ما يكون الشخص في هذه المرحلة قد مرّ بتجارب كثيرة (مهنية، عائلية، اجتماعية) تمنحه رؤية شاملة لحياته.
كما أن لديه القدرة على تحليل الأحداث بروية وتقييمها بحكمة ناتجة عن العمر الطويل الذي عاشه.
كما أن الكتاب يمتلكون في هذه المرحلة الوقت الكافي والهدوء النفسي، بعد أن تحللوا من التزاماتهم المهنية والوظيفية وأصبح لديهم الوقت الكافي للتفكير والتأمل دون ضغوط العمل المعهودة، كما أن الابتعاد عن صخب الحياة العملية يساعدهم على الكتابة بتعمق وصدق.
والكتاب في هذه المرحلة يرغبون في ترك أثر أو إرث لهم في المجتمع الذي عاشوا فيه من خلال توثيق ذكرياتهم وتجاربهم الحياتية، ويشعرون في هذه المرحلة بالحاجة الملحة إلى مشاركة خبراتهم مع الأجيال القادمة، فالكتابة تُعد وسيلة مهمة لخلق بصمة شخصية أو إلهام للآخرين مثل الأبناء أو الأحفاد أو القراء بشكل عام.
وتعد كتابة السيرة في هذه المرحلة بمثابة مراجعة ذاتية للحياة المعيشة ومحاولة للتصالح مع الماضي أياً كانت طبيعته، فهي تساعد كتابها على تقييم الإنجازات والإخفاقات برؤية موضوعية، وقد تساعد على تعديل بعض الأمور الحياتية التي يمكن تعديلها أو استدراكها، كما أنها تساعد أيضاً على استخلاص بعض الدروس المهمة منها.
وتوفر مرحلة التقاعد لكتاب السيرة الذاتية أيضاً حرية نسبية في التعبير والبوح قد لا تتوفر في مراحل العمر الأخرى، فلا توجد فيها مخاوف كبيرة من تأثير الكتابة على الوظيفة أو العلاقات المهنية، ويمكن لكتّابها البوح بتفاصيل شخصية أو آراء كان يصعب ذكرها سابقًا.
إن كتابة السيرة الذاتية في هذه المرحلة من شأنها كذلك أن تُحفّز الذاكرة على التذكر وتُقلّل من خطر التدهور المعرفي والخمول الذهني والمعيشي.
فهي بمثابة نشاط إبداعي يعزّز الإحساس بالهدف والرضا عن النفس، ويشغل أوقات فراغ كتابها، كما أنها تمكّن الكاتب من ربط مراحل حياته المختلفة (الطفولة، الشباب، النضج) بمنظور سردي متكامل، يكشف له أنماطاً حياتية متكررة أو تحولات مهمة في الشخصية لم تكن واضحة له من قبل، وبذلك تمكنه من التعرّف على نفسه بطريقة أكثر شمولاً وأعمق وقعاً وربما أكثر صدقاً!