د.أمل بنت محمد التميمي
بحمل مسلسل شارع الأعشى الكثير من التلميحات والإشارات الرمزية مثل (البقشة، والحنبل، والشماغ على الكتف، ....إلخ) وأكثر هذه الرمزيات التي سوف نتحدث عنها وأقواها (الحنبل) وهو السجاد الموضوع على الجدار المشترك بين سطوح (عواطف وسعد)، فقد أصبح الحنبل بعد مسلسل شارع الأعشى قرينة فنية للحب أثارت (الترند)،وتشير إلى (متصل الآن)، وهذه القرينة الفنية ضاعفت من الإقبال على شراء الحنبل بوصفه قطعة جمالية لرمزية الحب، والكثير من الشباب السعودي لم يكن يعرف ما هو (الحنبل)، ولكن بعد المسلسل أصبحت معظم وسائل التواصل الاجتماعي تكتب تعليقات عن (الحنبل) ومقاطع فنية كذلك، ويضاعف من جماليات رمزية الحنبل اللغة النجدية المصاحبة (سعد إنت في ذا؟) وهذه العبارة هي أقوى مشهد بصري، وقد أخذت (ترندا) بعد المسلسل بوصفها عبارة (رمزية للحب)، فهي تذكرنا (بنوافذ) حب ابن الجيران في الأفلام المصرية وأغاني عبد الحليم حافظ وشادية (مين قلك تسكن بحرتنا وتشغلنا وتقل راحتنا...)، ليدخل حب ابن الجيران في السعودية برمزية (الحنبل) أيقونة فنية لها خصوصية تم اختيارها بإبداع، فقد وظفت الصورة البصرية مصاحبة للعبارة في توزيعات العيد ومقاطع فنية كثيرة لتصبح (الترند العربي) للتلميح إلى العواطف لابن الجيران، بعيدا عن قيم الجيرة التي راح يبحث عنها بعض المشاهدين، فالحنبل هو(رمزية فنية) له سلطة فنية للتعبير عن الحب مثل صورة (القلب) الشائعة في كل الثقافات، ولكن الحنبل (السجاد) قد أصبح أيقونة للعواطف بشكل فني مستوحى من التراث القديم ليصبح له دلالات فنية صنعتها الدراما، ثم انتقلت من الدراما إلى حياتنا الاجتماعية والاقتصادية ليصبح للصورة مردود اقتصادي، وللحنبل طلب شرائي بتأثير المسلسل. هذه التلميحات الفنية استطاعت أن تكون لها خصوصية تميزها عن الدراما العربية المعتادة.
من المستحيل أن كل ابن جيران أحب بنت الجيران ومن المستحيل أن ننفي وجود هذا الحب مطلقا، وليس بالضرورة أن مثل هذا الحب يفسد المجتمع، لأنه حب يسعى صاحبه إلى الزواج في كل الحالات التي وردت في المسلسل، ولكن رمزية (الحنبل) الفنية أقوى من الانتقادات، إذ استطاعت أن تكون رمزا للحب في الستينات والسبعينات من واقع الخيال الفني.
وفي ظني أن من الأجدى للمتلقي ألا يعارض الفن والأدب، بل ينبغي عليه فتح مساحة لهما لكي يشكلا رموزا ذات سلطة أدبية وفنية يكون من شأنها تشكيل الذاكرة الجمعية (أساطير سعودية). والجميل في مسلسل شارع الأعشى تظافر الأدب مع الفن ليصبحا هما السلطة الأقوى التي تهيمن على ذاكرة المشاهد في السعودية، ولا ينبغي الاستهانة بسلطة الدراما، ففي مجال تصوير المؤلفات الأدبية وتبعية الدراما للتمويل شاهدنا مسلسل شارع الأعشى بوصفه من أقوى المسلسلات العربية تأثيرا في الموسم الرمضاني لعام (2025م -1446ه) وهذه الإحصائية نتيجة استقراء لمنصات المشاهدة ووسائل التواصل الاجتماعي.
شارع الأعشى مسلسل درامي سعودي مستوحى من رواية (غراميات شارع الأعشى) للكاتبة الروائية بدرية البشر (عام 2013م)، ومن إخراج أحمد كاتيكسيز. ... عُرض المسلسل على شاشة قناة MBC 1في شهر رمضان عام 2025م. كتبت السيناريو نوكهت بيكاكتشي وكتب الحوارات اوزلم يوسيل ونقلت الكاتبة منال العويبيل سيناريو المسلسل إلى اللهجة السعودية.
وشارك في التمثيل إلهام علي، تركي اليوسف، خالد صقر، ريم الحبيب، عايشه كاي، براء العالم، لمى عبد الوهاب، آلاء سالم، أميرة الشريف، مها غزال، طرفة الشريف، بدر محسن، عهود السامر، سارة الجابر، محمد شامان، أغادير السعيد، عبد الرحيم الشربجي، عبد الرحمن نافع، بندر الخضير، عزيز بحيص، وآخرين.
وبحسب المنصات، يعد مسلسل شارع الأعشى هو الأعلى مشاهدة مقارنة بالمسلسلات الرمضانية الأخرى، فما أسباب ارتفاع مشاهدة مسلسل شارع الأعشى؟
هل لأن العمل متحول من رواية أدبية؟ أم لأنه من أضخم الإنتاجات الدرامية؟ هل كانت الأسباب أدبية أم فنية أم أن الامر متعلق بالأحداث أو الشخصيات؟ أم أن هذه الحقبة هي حقبة مغيبة في عالم الدراما السعودية، فحينما بدأ الاهتمام بها في مسلسل (العاصوف) نجد أنها جذبت المشاهد السعودي والعربي إليها كثيرا.
سبق وأن عرض مسلسل (الزاهرية) للكاتبة أمل الفاران وعرض في شهر رمضان 1443ه، وتدور أحداثه في عام 1998م في بلدة نجدية، وكذلك سبق أن عرض مسلسل العاصوف في مواسم رمضانية سابقة (1439 -1441 – 1443ه)، وهو يتناول حقبة السبعينيات والثمانينيات وباللهجة النجدية. وقد بينت كثرة المشاهدات أن مثل هذه المسلسلات يفضلها الجمهور، ولكن اللمسات التركية الفنية ساعدت في (تبهير) قصص شارع الأعشى بأبعاد لم تكن موجودة في الرواية المكتوبة، وأدى ذلك إلى مضاعفة المشاهدة. ومن هذه الأبعاد المضافة: تهديد مونة بقتل نفسها واستخدام السكين، وطعن راشد لفواز وطعنه عواطف، وهروب مزنة، ومحاولة انتحار عطوة، وغدر الجازي لعواطف...إلخ). وكل هذه الأفكار الفنية الدرامية هي أفكار تركية لزيادة المشاهدة ولا تنقل قيم المجتمع، حتى في قضية هروب الفتيات أو إخفاء الإرهابي هي قضايا فنية في المسلسل، والقضايا الأهم هي قضية صورة الأم والأب التي أبدعت في تجسيدها عائشة كاي بوصفها الأم النجدية بكل أبعادها الشكلية والنفسية والاجتماعية، وكذلك خالد الصقر الذي أبدع في تجسيد صورة الأب المثالي في المسلسل وهما صورة تستحق الدراسة بعمق.
ولكن، هنا لا يكفي الحديث وجدانيا فقط عن فترة تاريخية أحبها الجمهور، ففي تحليل المسلسلات يستند المتلقي الناقد في تحليله على العناصر التالية: النص الجيد، والمخرج المتمكن، والمنتج. وليتني أستطيع أن أقدم رأيي الشخصي بمسلسل شارع الأعشى دون أن استخدام أي أدوات نقدية، فالمسلسل من أجمل المسلسلات التي شاهدتها باستثناء النهاية. كنت أتمنى أن تكون نهاية عزيزة المتعلمة المثقفة صاحبة الأسرة المتميزة والأب الحنون نهاية جميلة تليق بالأب المثالي، ولكن النهاية التي اختارها الأتراك بوصفهم القوى الفنية المهيمنة على سلطة الأدب. كما أن بعض الشخصيات والأحداث في المسلسل تختلف عن بعض الشخصيات والأحداث في الرواية، فالنهاية في المسلسل تتناسب مع ثقافة الدراما التركية أكثر منها مع ثقافة المجتمع السعودي.
عزيزي القارئ، أعتذر لأنني سأقاوم رأي الشخصي المنحاز جدا لمسلسل شارع الأعشى، وأحاول تقديم قراءة نقدية فنية تستوجب قراءة الدراما السعودية في وجود خارطة عالمية، ففي كتب الدراما العالمية المؤلفة مؤخرا لا نجد في تاريخ السينما أو الدراما العالمية حيزا لتاريخ الدراما السعودية. ولكن الدراما السعودية مؤخرا رسمت لها من خلال المهرجانات الدولية حضورا وتاريخا في خارطة السينما العالمية بعدة أفلام، منها على سبيل المثال: فيلم هجّان، وفيلم ناقة، وفيلم هوبال، وفيلم وجدة ...إلخ. وحاليا تفسح الدراما السعودية لها مكانا في الموسم الرمضاني الفني العربي لتتصدر رأس القائمة في التاريخ الفني العربي بتصوير الأعمال الأدبية من خلال تحويل رواية غراميات شارع الأعشى لبدرية البشر إلى مسلسل درامي رمضاني. وكما أن مسلسل شارع الأعشى يمثل صورة لمجتمع سعودي نجدي في فترة السبعينات والثمانينيات، يأتي مسلسل (ليالي الشميسي) ليشكل الصورة الأخرى لشارع آخر وأنماطا أخرى من الشخصيات السعودية منها النجدية والحجازية. وتمثل فبه الشخصيات الأكثر ثراء وتعلما، ويعكس تاريخيا تلك الفترة المغيبة في الدراما العالمية عن المجتمع السعودي. والدراما العالمية تعكس لنا شوارع كثيرة عربية مثل (ليالي الحلمية، والحارة، ....إلخ) ولكن شوارع السعودية كانت مغيبة، وقد بدأ المشاهد ينجذب إلى شوارع تشبه الحكايات المتخيلة التي لم يشاهدها من قبل.
وحينما بدأت الدراما السعودية في مجال الموسم الرمضاني محاولة أن تجد لها حيزا بدأت بقوة، حيث بدأت تدخل مجال تصوير المؤلفات الأدبية في المسلسلات، فهي بهذا الرصيد الأدبي الفني تبدأ برسم معالجة فنية لها تلفت انتباه المشاهد والناقد معا، فنقل الرواية الأدبية إلى الشاشة يتطلب مشاركة متخصصة في مختلف المهن والمجالات. وهذا يرفع من مستوى المعالجة الفنية للمسلسل أو الفيلم السعودي، وتصبح قضية نقل أفكار المؤلف الأدبي الموجودة في الأصل إلى الشاشة مسؤولية مشتركة بين المؤلف والمخرج والمنتج. وفي حالة وضع خطة موضوعية في تبعية الأعمال الدرامية إلى مجال التخطيط والتمويل الحكومي فهي تمثل رؤية إرادة عليا للإبداع السعودي بشكل خاص.
ماذا كرس مسلسل شارع الأعشى من أفكار كانت موجودة في رواية (غراميات شارع الأعشى) ونقلها من الأصل إلى الشاشة؟ وماذا أضافت رؤية المخرج إلى الشاشة من أفكار فنية؟ بكل بساطة الفكرة الأساسية في موضوع الرواية هي استكشاف طبيعة الإنسان النجدي البسيط في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، واستكشاف وضع المرأة الاجتماعي وبروز دور العائلة والحارة والجيران، ويضاف إلى ذلك بعض مشاكل الناس البسطاء في حي من أحياء نجد واهتمامات الناس العاديين وطريقة اجتماعاتهم. فقد رصدت الكاميرا بشكل ذكي تحولات المجتمع السعودي المتأثر بـ (جيل الصحوة) اجتماعيا واقتصاديا. أما الرؤية الإخراجية فهي التي كرست اهتمامها في انتشار اللهجة النجدية بشكل إعلامي عربي واسع، وهذا الموضوع لم يكن من موضوعات الرواية الأدبية بتاتا.»، وهده سلطة فنية إبداعية كانت مهمة جدا في انتشار اللهجة النجدية والبدوية معا.
ففي القصة الأساسية تتناول الكاتبة مشاكل بعض الشابات والشباب البسيطة وهي التعلق والحب والزواج من الأقارب والجيران، وكذلك تعلق الشباب بالأفلام والمسل سلات والأغاني، بينما في الرؤية الإخراجية نقلت لنا الشاشة قضايا كثيرة عن المجتمع وأساليب حياته مثل (لبس العباءة، الملابس، الذهب، طريقة اجتماع العائلة على الأكل، وطريقة تجمعهم على مشاهدة المسلسلات والأفلام...وكتابة المذكرات، مساعدة الجيران، الصبر على الظلم...) وبدون عناء رسم لنا المسلسل الترابط العائلي والأسري وحياة الجيران وطريقة الاستعدادات للأفراح واهتمامات البنات في تلك الفترة. وبالنسبة لمن لم تعجبهم نهاية المسلسل، فهذه النهاية هي نهاية رؤية مخرج تركي يريد إثارة الحماس في الدراما، وكذلك ما نجده من إطلاق النيران وطعن السكاكين وتكرار المشاهد الدموية، فهذه أمور طبيعية حيث يظهر تأثير الدراما التركية على الدراما السعودية. ويحق لنا طرح السؤال التالي: هل قدّم مسلسل الأعشى صورة درامية تشبهنا؟ الجواب نعم، وبقوة وأجمل ما في المسلسل اللهجة النجدية واللهجة البديوية التي تعكس صورة أجدادنا وهي لهجة شبه غير مسموعة أصبحت في حياتنا، حيث طغت اللهجة البيضاء في حياتنا، ولكن مسلسل شارع الأعشى أسمعنا لهجات شبه معدومة في حياتنا المهنية والاجتماعية.
وكذلك يعكس مسلسل الأعشى صور الأم السعودية بطريقة مذهلة والأب بصورة جميلة جدا، ونشاهد علاقات العائلة وعلاقات الجيران في ذلك الزمن الماضي الجميل، بطريقة جميلة جدا جدا.
وعلى الجانب الفني منذ أغنية التتر هيض المسلسل مشاعر المشاهد، وقدم المسلسل صورة تقريبية عن حياة بعض الأسر السعودية ولبس العباءة للمرأة السعودية في تلك الفترة ببراعة، أما عن إشارات الحب والغراميات فهي طريقة فنية ساعدت في رفع المشاهدة بأسلوب لطيف وغير خادش. وفي ظني أن من أهم أسباب نجاح المسلسل (اللهجة النجدية) وصورة المرأة السعودية المحتشمة وطريقة غنجها وجمالها وطريقة تزينها بالذهب التي أصبح (ترندا)، وكثير من الشابات الصغيرات أصبحن يقلدن شابات مسلسل شارع الأعشى بطريقة اللبس وتسريح الشعر والذهب، فما هي الأزمة التي بني عليها المسلسل؟ لا مشكلة في المجتمع ببساطته، ولكن على خلفية الناس البسطاء ظهرت أزمة (محتلي الحرم) ليستعرض المسلسل مشكلة فكرية دون أن يركز عليها بشكلها السوداوي، وهي أزمة متكررة في السبعينيات والثمانينيات. والمعاناة المرتبطة بالمجتمع في تلك الفترة لم تؤثر على الأسر السعودية وأثبتت تماسكها وثقافتها وتدينها الوسطي الجميل.
** **
- جامعة الملك سعود