حمد سعد المالك
لطالما كانت الفرضيات الجريئة مثار سخرية أو تشكيك، خصوصًا حينما تصطدم بالمنطق السائد أو حدود الواقع التقني في زمانها.
قبل عقود، من كان يصدق أن السيارات ستسير دون سائق، أو أن البشر سيحملون هواتف صغيرة تُمكّنهم من التواصل مع العالم بأسره، أو حتى أن تتجول في السماء سيارات أجرة طائرة؟! كانت هذه الأفكار تُدرج ضمن «خيال علمي» لا أكثر.
ولكن الزمن أثبت أن ما كان خيالًا، صار واقعًا.
لقد أصبحنا اليوم نعيش بعضًا من تلك الفرضيات التي وُصفت يومًا بالجنون، مثل استزراع الصحاري، والتعديل الجيني، والتحكم الصناعي في الطقس عبر تقنيات مثل الاستمطار.
ومن بين هذه الأفكار التي كانت تُعد مستحيلة أو غير قابلة للتحقق، نجد فكرة بناء الجبال الاصطناعية لمكافحة التصحر وخلق بيئات أكثر خصوبة، وهي الفكرة التي قدمها الكاتب السعودي موسى بن ناصر النجدي في كتابه «القضاء على الصحراء»، الذي نُشر عام 1989.
في مقدمة كتابه، يقول النجدي: «كأحد أبناء الصحراء الذين يحلمون دوماً بالمطر والأنهار والخضرة، وبعد تفكير طويل وجهد جهيد، أعتقد أني توصلت إلى حل يمكن تنفيذه، ويقضي على الصحراء من الكرة الأرضية».
تتمثل فكرته الأساسية في إنشاء سلسلة جبال صناعية شاهقة في المناطق الصحراوية، بحيث تُسهم في رفع الرطوبة وتكثيف بخار الماء، مما يؤدي إلى تكوين السحب وسقوط الأمطار.
الجبال الاصطناعية تُعد هنا «مصيدة بخار»، وتكملها آبار صناعية لضخ المياه، وبحيرات صناعية لتخزينها، مع الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة من الشمس والرياح.
ويضيف: «أنا كل ما أطلبه من أبناء الصحراء أن يصنعوا مصيدة لبخار الماء، فالسدود الأرضية ما هي إلا مصائد للمياه، سبقتهم إليها الكائنات الحية، والجبال كذلك... فلمَ لا يكون لهم نصيب مما يمر بأرضهم؟».
قد تبدو فكرة بناء الجبال الصناعية خيالية أو بعيدة المنال للوهلة الأولى، لكنها لم تكن غريبة تمامًا عن الأدبيات العلمية، بل بدأت ملامح تحققها تظهر في عدد من المشاريع الطموحة.
ففي عام 2016، تحدث الدكتور عبد الله المسند عبر صحيفة «سبق» عن مشروع مقترح لبناء جبل صناعي في الإمارات لتحفيز هطول الأمطار، في مقال حمل عنوانًا لافتًا: «المسند عن بناء جبل صناعي إماراتي: يمكن أن تُبنى أهرامات.. إنها الفكرة المجنونة!».
وأشار فيه إلى أنه قرأ فكرة مشابهة قبل أكثر من عشرين عامًا، مؤكدًا أنها فكرة علمية صحيحة من حيث المبدأ، وإن كانت تتطلب إمكانات ضخمة لتنفيذها.
وقد بدأت الإمارات بالفعل خطوات عملية نحو هذا الاتجاه، بإطلاق مشروع رائد لبناء أول جبل صناعي في العالم ضمن جزيرة الحديريات، بارتفاع يزيد على 45 مترًا فوق مستوى سطح البحر.
ويهدف هذا المشروع إلى تعزيز عمليات الاستمطار، وزيادة الموارد المائية، فضلًا عن تنشيط السياحة والاقتصاد المحلي.
ولم تكن الإمارات وحدها في هذا الطموح، فقد اقترحت هولندا أيضًا مشروعًا جريئًا لبناء جبل صناعي بارتفاع يصل إلى 2000 متر في منطقة «فالزبيرغ»، ليُستخدم في تحسين المناخ المحلي، وجذب السياح، وممارسة الرياضات الجبلية.
ويتطلب هذا المشروع كميات هائلة من الأسمنت المسلح، ما يسلّط الضوء على التحديات الهندسية والبيئية التي تصاحب تنفيذ مثل هذه الرؤى.
في كتابه، لا يكتفي موسى النجدي بطرح نظريته، بل ينتقد عددًا من المشاريع العالمية الأخرى المقترحة لمواجهة ندرة المياه، مثل: مد أنابيب بين الأنهر لما فيه من تحديات سياسية، وتكاليف هائلة، واعتماد على الطاقة القابلة للنضوب، نقل الجبال الجليدية: لما فيه من صعوبات النقل والتكاليف والتأثر بالعوامل الدولية، محطات التحلية: يراها النجدي غير عملية للزراعة والصناعة بسبب التكلفة العالية واعتمادها على طاقة غير متجددة.
ويقول: «سألت نفسي هذا السؤال: ما الوسيلة لتشغيلها بعد نفاد الطاقة؟ هنا كان لا بد من تفكير مختلف، لا يعتمد على الطاقة القابلة للنفاد، بل على مشروع يعتمد على الصحراء نفسها، وعلى طاقة متجددة، وعلى فكر الإنسان ابن الأرض».
مع تزايد التحديات البيئية، وندرة المياه، والتصحر الزاحف، تُصبح الأفكار التي كانت تُصنف ضمن «الخيال العلمي» أقرب إلى حاجة ملحة.
ربما لم يتحقق مشروع النجدي بعد، لكن روح فكرته تلهم اليوم كثيرًا من المشاريع المستقبلية.
وهنا نتساءل: هل تكون الجبال الاصطناعية الخطوة القادمة في مواجهة التصحر؟ وهل نستطيع تسخير الصحراء نفسها كجزء من الحل لا المشكلة؟ الزمن فقط كفيل بالإجابة.
لكن المؤكد أن موسى النجدي رحمه الله وغفر له لم يكن حالمًا ساذجًا، بل مفكرًا سبق زمانه، وآمن أن الخيال إذا وُجّه بالعلم والإرادة، يمكن أن يصنع المعجزات.