عبدالله العولقي
دُعي الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي ( 1877م – 1945م ) إلى محفلٍ شعري، وعندما اعتلى المنصة خاطب جمهور القاعة بأنه سيحكي لهم قصة حقيقية حدثت له وتركت في نفسه أثراً بليغاً، وقد كتب حولها قصيدة مؤثرة سينشدها في المحفل، يقول بأنه ذهب لزيارة صديقه التاجر محمد علي التتنجي في سوق بغداد القديم، وقد جلس مع صديقه أمام الخان يتجاذبان الحديث ويتعاهدان الذهن بسالف الحكايا والذكريات، لفت انتباه الرصافي مشهد عجيب أثار في داخله علاماتٍ من الاستفهام والتعجب، حيث لمحت عيناه امرأةً محجبةً يُوحي منظرُها العام أنها فقيرة جداً:
أثوابُها رثّةٌ والرِّجلُ حافية والدمع تذرفه في الخدّ عيناها
كانت هذه السيدة تحمل ثلاثة همومٍ معها، همّها الذاتي كونها مريضة لا تقدرُ على المشي، وهمُّ جوعها الشديد فهي تحمل بيدها اليمنى صحناً فارغاً، وهمُّ رضيعتها التي تحملها بيدها اليسرى وهي تصرخ من الجوع، لقد وقفتْ هذه السيدة بانكسارٍ أمام صاحب الفرن، تريدُ أنْ ترهنَ عنده هذا الصحن مقابل أرغفةٍ من الخبز تُطعم به نفسها المريضة علّ الحليبَ يدرُّ من صدرها فتطعم رضيعتها الباكية!!.
لقد أثار هذا المشهد الإنساني نفسيّة الشاعر المرهفة، وظلّ يتأمل منظرها وهي تساومُ صاحب الفرن الذي لمْ يتردّد في إعطائها الخبز دون أن يقبل رهن الصحن عنده، بل إنّ إنسانيته الرائعة دفعته إلى أنْ يُخرج من جيبه أربعة قروش ليضعها فوق الخبز، تهلل وجه هذه المرأة البائسة لبرهةٍ من الزمن، فقد زال عنها همَّ جوعها، ثم شكرتْ صاحب الفرن على أخلاقه الرفيعة، وغادرت المكان وهي تشكر خالقها أن يسّر لها هذا الخبز الساخن، لكنْ بقيتْ الرضيعة التي تحملها وهي عاجزةٌ عن إرضاعها:
تمشي وتحمل باليسرى وليدتها
حملاً على الصدر مدعوماً بيمناها
تقول ياربِّ لا تتركْ بلا لبنٍ
هذي الرضيعة وارحمْني وإيّاها
ما تصنعُ الأمُّ في تربيب طفلتها
إنْ مسّها الضرُّ حتى جفَّ ثدياها
، تلفّت الرصافي تجاه صديقه وقال له: هل رأيت هذه المأساة؟، أمّا صاحبه فلمْ يظهرْ على محيّاه شيء من سمات التأثر!، بل أجابه أنه يعرف هذه المرأة، فهي أرملة قد توفي زوجها قبل عدة أشهر:
مات الذي كان يحميها ويُسْعدها
فالدهر من بعده بالفقر أشقاها
وقد ساءت حالتها بعد رحيله، والأمرُّ هو حال تلك الطفلة الرضيعة:
ما بالُها وهي طول الليل باكية
والأم ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدّ قلبي حين أنظرها
تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
كانت هذه الكلمات تقرع ذهن الشاعر المرهف الذي لم يتمالك نفسه إلا وهو يلحق بتلك السيدة ليعطيها 12 قرشاً كانت كل ما يملكه في جيبه:
حتى دنَوتُ إليها وهي ماشيةٌ
وأدمعي أوسعتْ في الخدِّ مجراها
وقلت يا أخت مهلاً إنني رجلٌ
أشاركُ الناسَ طرّاً في بلاياها
سمعتُ يا أخت شكوىً تهمسين بها
في قالةٍ أوجعتْ قلبي بفحْواها
هلْ تسمحُ الأخت لي أنّي أشاطرُها
ما في يديّ الآن استرضي به اللهَ
كان يتأمّل ملامح يدها البائسة وهي تأخذ القروش منه وهي في حالةٍ من الترددٍ والحياء:
ثم اجتذبتُ لها من جيبِ ملحفتي
دراهماً كنت استبقي بقاياها
وقلتُ يا أختُ أرجو منك تكرِمتي
بأخذها دون ما منٍّ تغشّاها
شعرت السيدة الأبيّة بمرارة الموقف، وتأملت مدى الحال الصعبة التي وصلت إليها:
وأخرجتْ زفراتٌ من جوانحها
كالنار تصعدُ من أعماقِ أحشاها
فما كان منها إلا أن رفعت الصحن أمام الرصافي وهي تطلب منه أن يأخذه منها مقابل تلك القروش، لكنّ الشاعر المرهف رفض ذلك الأمر ليودّعها بأدبٍ جم ثم يعود إلى بيته متأثراً من ذلك المشهد، حاول الرصافي أن ينام تلك الليلة لكن دون جدوى، فمنظر تلك السيدة الفقيرة الجائعة لا يزال يتمثل أمام ناظريه، وعندما تيقن من ذهاب النوم عينه فزّ واقفاً عن سريره ثم أضاء شمعة المكتب، وشرع يكتب قصيدته الشهيرة وقلبه يعتصر من الألم، كانت الدموع تنهمر من عينيه أثناء الكتابة من شدة تاثره، فقد وصل إحساسه المرهف وانسانيته السامية إلى مستوى عالٍ من الانفعال الذاتي، ذلك الانفعال العاطفي الذي يتولد عنه الابداع الفني البديع، وهكذا كانت قصيدة الأرملة المرضعة من أشهر الأعمال الشعرية التي تحمل سمة السهل الممتنع:
هذي حكاية حالٍ جئتُ أذْكرُها
وليس يخفي على الأحرار مغزاها
أولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ
وأشرفُ الناسِ منْ في المالِ واساها
معروف بن عبدالغني البغدادي الرصافي هو شاعر العراق في زمانه، ولد في منطقة الرصافة ببغداد حيث تعود أصول أسرته إلى عشيرة الجبارة المعروفة في كركوك، عمل طيلة حياته في قطاع التعليم العام، وتدور معظم موضوعات قصائده في الشأن الاجتماعي العراقي، وأمامنا اليوم واحدة من أهم قصائد الأدب العربي الحديث حسب ما يراه بعض النقاد، فقد كان الرصافي رائداً في شعر القصة الإجتماعية وبارعاً في تصوير المشاهد الاجتماعية التي تواجهه في يومه لينظمها أمام المتلقي ليجعله يشاهد فيلماً سينمائياً بديعاً أمامه!!.
تقع القصيدة في 37 بيتا من بحر البسيط، وهو من البحور الطويلة التي تستند إلى الموضوعات الجادة مثل الموضوعات الاجتماعية التي يتطرق إليها الرصافي كثيراً في ديوانه، والقصيدة ذات وحدة موضوعية متكاملة، بل إن قصائده كلها ذات وحدة فنية موضوعية، وهذا يدل على شاعرية الرصافي المتدفقة وقدرته الفائقة على النفس الطويل في تناول المعنى الواحد.
أما هندسة القصيدة فقد صمّمها الشاعر بعنايةٍ فائقةٍ وفْق ثلاثة شخصيات، الأرملة وطفلتها والشاعر نفسه، وذلك وفق الإحصاء التحليلي التالي: فالأبيات من (1-10) وصف لحالة الأرملة المرضعة، والأبيات من (11-23) وصف لحالة الطفلة الصغيرة، والأبيات من (24-35) وصف لحالة الشاعر ونفسيته تجاه تلك الحالة الانسانية، ولو بحثنا ضمن سياق القصيدة عن العنوان المعادل الذي يتخفى وراء النص لوجدناه الفقر، فقد تكررت هذه الكلمة داخل النص حوالي 6 مرات، وهو المعنى الأصلي الذي أوجع إحساس الشاعر وأثار خياله حتى ينظم هذه الرائعة الفنية، ومعنى الفقر هنا لا ينحصر فقط في معنى حرمان المال فحسبْ، بل يتعدّى ذلك في معانيه المتوازية معه ليتجه أيضاً إلى معانٍ أخرى كغياب الحنان والقوة والأمان لهذه المرأة بسبب بُعد الزوج عنها.
أما إذا تحدثنا عن البنية الإيقاعية داخل القصيدة لوجدنا أنها تتناغم موسيقياً ضمن سلسلة متلائمة من الجمل والتراكيب اللغوية التي أجاد الشاعر في صفها ونظمها ببراعة الفنان الماهر وفقاً لخبرته الطويلة مع النصوص الشعرية، ولعل اختياره لقافية الهاء يعكس مدى تلك الخبرة الفنية حيث الحرف المهموس الذي يصور للمتلقي مشهد الآهات والألم في حالة تلك الأرملة المرضعة، بالإضافة إلى قدرة الشاعر على خلق الموسيقى المتناغمة المتوازنة داخل القصيدة:
الموت أفجعها والفقر أوجعها
والهمُّ أنْحلها والغمُّ أضْناها
في هذه القصيدة نلمح الأدب الراقي والتربية الفاضلة في التعامل مع هذه الأرملة الفقيرة عبر خطابها بالأخت:
وقلت يا أختِ مهلاً أنني رجلٌ
أُشاركُ الناسَ طرّاً في بلا ياها
سمعتُ يا أختِ شكوىً تهمسين بها
في قالة أوجعت قلبي بفحواها
هذا التوظيف التربوي الأنيق أضاف للقصيدة أبعاداً في الرسالة الاجتماعية للقصيدة، حيث أظهر الشاعر ذاته المنتجة للنص بروح الإنسانية الخالصة:
لو عمّ في الناس حسَنٌ مثل حسّك لي
ماتاه في فلوات الفقر من تاها
وقد يصاحب هذه الروح النقية وصفاً للحزن يسيطر على الطابع العام للنص عندما تتكرر كلمات متوازية مع الحزن كالدمع والبكاء والهم والزفرات والشكوى، ولهذا كانت النتيجة الانطباعية هي مصادقية الشاعر في إحساسه الإنساني من جهة، وتعاطف المتلقي مع هذه المصداقية من جهة أخرى.
في هذا النص البديع تحتشد تشكيلة رائعة من الصور الشعرية والبلاغية، فيحضر التشبيه: واصفرّ كالورس من جوعٍ محيّاها، تمشي بأطمارها والبرد يلسعها كأنه عقرب شالت زباناها، وتحضر الاستعارة: أثقل الإملاق، مزق الدهر، البرد يلسعها، كما تتفوق الجملة الفعلية بنسبة 65 % على الجملة الاسمية 35 % كون المشهد الذي يخلقه الشاعر داخل أجواء القصيدة يشبه الفيلم السينمائي الذي يعرضه أمام المتلقي كما أسلفنا من قبل، هذا المشهد يستدعي تفوّق الحركة على السكون لتكون النتيجة تحرك المشاعر في نفس المتلقي بإنسانيتها الفطرية تماماً مثلما تحركت في ذات الشاعر وجعلته يكتب هذا النص الفريد.
هناك خطاب آخر يسود النص، وقد أجاد الشاعر في تصويره وأعني خطاب القلق النفسي، فقد صوّر الرصافي مشهد القلق وهو يحيط بهذه الأرملة الفقيرة من كل حدبٍ وصوب، فهي قلقة تجاه بكاء رضيعتها الصغيرة من الجوع:
ما بالها وهي طول الليل باكية والأم ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدّ قلبي حين أنظرها
تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
وقلقة من مرضها الذي بدت آثاره تلوح على محياها، وهي عاجزة عن تشخيص ماهية ذلك الداء:
تبكي لتشكوَ من داءٍ ألمّ بها
ولستُ أفهم منها كُنْه شكواها
قد فاتها النطقُ كالعجماء أرحمها
ولستُ أعلمُ أيّ السُقْمِ آذاها
وقلقةٌ من واقع موت زوجها وكيف
تتحمل مسؤولية تربية الأبناء من بعده:
ويح ابنتي أنّ ريب الدهر روّعها
بالفقر واليُتْمِ آهاً منهما آها
كانت مصيبُتها بالفقر واحدةً
وموت والدها باليُتْم ثنّاها
وفي الختام.. يعد الشعر الاجتماعي لوناً فنياً ظهر في العصر العباسي على يد ابن الرومي، وفي العصر الحديث كتب حوله العديد من الشعراء الكبار مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والجواهري وميخائيل نعيمة وأبوماضي، لكن يظل الشاعر الكبير معروف الرصافي هو العنوان العريض لهذا اللون الشعري الجميل.