الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
على الرغم من أن النسيان يعد صفة نقص للإنسان، إلا أنه نعمة كبيرة من نعم الله علينا التي نغفل عنها ولا نشعر بها، وقد يكون النسيان نعمة من الله لتسهيل الحياة من خلال السماح للإنسان بنسيان الأحداث السيئة والصدمات من الماضي، إلا أن النسيان المتزايد قد يؤدي إلى مشاكل مثل نسيان القرآن الكريم والمعلومات المهمة الأخرى وعدم القدرة على التركيز.
والنسيان له أسباب كثيرة، ولا أحد يسلم من النسيان، لكن يقل ويكثر.
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من أهل الرأي ليتحدثوا عن النسيان، ومتى يكون محموداً، ومتى يكون خطيراً؛ فماذا قالوا؟.
القوة الحافظة
يقول الدكتور محمد بن سعد الحنين الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: النسيان له معنيان في اللغة: الأول: إغفال الشيء، والثاني: ترك الشيء.
وهو: ترك الإنسان بالضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره.
وشاع أن لفظ الإنسان مشتق من النسيان وهو قول لبعض أهل اللغة، إلا أن بعض المحققين من أهل اللغة كالأزهري: يختار أن أصله من الإيناس وهو الإبصار فالناس يؤنسون أي: يبصرون بخلاف الجن، مشيراً إلى أن الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادهما، ففيهما من أنواع ضروب المصالح والمتأمل والناظر في محلهما وهو المخ يجد أنه آية عظيمة الصنع أبدعها الله في هذا المخلوق العجيب: فهو يزن حوالي كيلو جرام وموقعه داخل جمجمة الرأس، وقد أثبتت الدراسات أن الإنسان يستطيع أن يستوعب داخل مخه مليون معلومة مختلفة ويزيد هذا المعدل ليصل إلى نحو عشرات الملايين لأصحاب القدرات الخاصة، وهذا فيه دلالة على عظمة الله في مخلوقاته، يقول لبيد بن ربيعة:
فيا عجباً كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
الحفظ من النعم العظيمة التي تستحق الشكر، يقول ابن القيم: لولا القوة الحافظة التي خص بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها ولم يعرف ما له وما عليه ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورأى ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مراراً ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى بل كان خليقاً أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً فتأمل عظيم المنفعة عليك.
ثم يصور في مقابل ذلك النسيان أيضاً من كونه من أضرب النعم فيقول -رحمه الله-: ومن أعجب النعم على الإنسان نعمة النسيان فإنه لولا النسيان لما سلا شيئاً، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزى عن مصيبة، ولا مات له حزن، ولا بطل له حقد، ولا يتمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجا غفلة عدو، ولا نقمة من حاسد.
ويقول أحد الكتاب في هذا المعنى: نعمة النسيان هي التي تتيح لكثير ممن أوقفهم المرض على شفا الموت ومن أوقفهم سوء الحظ على شفا الإفلاس أو أوقفتهم الحاجة على أبواب السجون أن يسعدوا ويهنئوا بالعيش في الحياة وينعمون بما فيها من خير وبركة.
مذموم ونقمة
ويتساءل د. محمد الحنين بقوله: تُرى لو لم يسعدنا الله بهذه النعمة فما عسى تكون الحياة إذا نحن تذكرنا كل يوم ما أصابنا وأصاب أحبتنا من محن؟ فهل نستطيع مع ذلك أن نسمو على ما في الحياة من صعاب ومشقات؟.
والنسيان مع كونه محموداً ونعمة فإنه قد يكون مذوماً، ونقمة: وذلك إذا نسي الإنسان ما ينفعه في الدنيا والآخرة فنسي واجباته تجاه خالقه، ونسي ما يقربه من مرضات المنعم عليه والمتفضل عليه بحياته ووجوده سبحانه وإذا نسي وضيع ما يقوم به أمر دينه الدنيا.
أما علاقة النسيان بالتكليف: فالناسي غير مكلف في حالة النسيان؛ لأن الإتيان بالفعل على وجه الامتثال يتوقف على العلم بالفعل بالمأمور به؛ وهذا غير متحقق في الناسي؛ فكان كافياً في إسقاط التكليف عنه، ورفع الإثم بالنسيان والخطأ لا ينافي أن يترتب عليه أحكام وحقوق ثابتة تلزم الناسي وتتلخص فيما يلي:
لا يعتبر النسيان عذراً في حقوق العباد؛ لأنها مبنية على المشاحة والمقاضاة فيترتب على ذلك الغرامات والديات والضمانات.
أما حقوق الله سبحانه وتعالى فهي مبنية على العفو والمسامحة وهي تتمثل في جانب العبادات والقربات، فإذا وقع النسيان فيها سواء كان بترك مأمور أو بترك محظور فإن الإثم مرفوع، ويكون مرفوعاً في حقوق الله إذا كان هذا الحق غير قابل للتدارك.
وأما إذا كان قابلاً للتدارك فلا يسقط بالنسيان؛ لأن مقصود الشارع مصلحته لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا بذلك».
وأما عن علاج النسيان؛ فيقول: فكثيراً ما يُعزى فشل الإنسان في أداء مهام حياته الدينية والدنيوية إلى آفة النسيان، فكلما ضعفت ذاكرة الإنسان اضطرب سيره في دنياه وضعف أداؤه العام، مما يكون له آثار سلبية على حياته العلمية والعملية والاجتماعية، وإذا كان ذلك داء، فكل داء له دواء فمع الحاجة في بعض الحالات إلى مراجعة الأطباء المختصين، فيستوجب عليه أن يستنجد بالله تعالى خالقه وبارئه يستمد منه العون والقوة على هذا الضعف البشري الفطري، فمع قيام العبد بطاعته فهو محتاج في جميع عباداته وأموره للاستعانة به سبحانه وتعالى، فإن الإنسان لاحول ولا قوة له إلا بالله تعالى فعليه أن يحرص على تقوى الله سبحانه وتعالى والمحافظة على الأوامر وترك النواهي وذكر وشكره.
فذكر سبحانه هو حياة القلوب وروح العبادات يذهب الغفلة وهو جلاء القلوب ودوائها يقول الله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ).
أجل النعم
ويشير الدكتور عمر بن إبراهيم المحيميد أستاذ الفقه بجامعة القصيم إلى أن الإنسان سُمّي بالإنسان لكثرة نسيانه، فالنسيان طبيعة الإنسان، ليس عليها عتب أو ملام، بل بلا شك، من أجلِّ النِّعم: نعمة النسيان، بها يُسلى عما حلَّ وكان، من المصائب والأحزان، وينطلق الفتى في دروب الحياة؛ ويسابق الزمان بمزاولة الأعمال، وعمارة الأوطان لبناء الإنسان.
لأنه قد يُقْعِدهُ ألمُ الاستذكار عن التشييدِ والإعمار وملء الأوقات بجميل الاستثمار؛ فيبوء بالخسران، ويحصل ما لم يكن بالحسبان.
ويشدد د. عمر المحيميد على وجوب أن يكون النسيان بوسطيةٍ واتزان، فإن زاد على الحد انقلب للضد، كأن يؤدي إلى الإهمال، عندئذٍ يكون من أعظم المشكلات التي تؤولُ به إلى الخسران؛ فينقلب من كونه نعمة إلى أن يكون نقمة؛ كما لو دمّر العلاقات وتسبَّب بالهجران، بنسيانه الواجبات، كحقوق الوالدين أو الزوج والولدان؛ فيحشو صدورهم عليه غِلَّا، أو يُدخل عليهم الضعف والنقصان، أو يتسبب لهم بالذل والهوان؛ حينئذ يتطلب الأمر للتدخل باستعجال والمبادرة بالعلاج.
والاتزان مطلب؛ لنفسك عليك حقاً، ولغيرك أيضاً، والنسيان قد يُضيِّع ذلك أحياناً، فعلى الأريب الفطِن أن يرْقب تصرفاته، وأن يُقيِّمُ أفعاله بين الفينة والأخرى، لئلا يُقصِّر فيما وجب عليه، وعلى كل حال: التوسط حسن في كل حال.
تهديدات النسيان
وتصف الدكتورة منى بنت علي الحمود الخبيرة التربوية، مؤسسة ورئيسة أكاديمية فنسفة الثقافية للتدريب النسيان بأنه المفارقة مع الزمن، بمعنى أدق هو عدم وضع لحظة معينة في شريطها أو سياقها الزمني الصحيح، وعلى النقيض التذكر أحياناً؛ فقد نسترجع لحظة ما في غير زمنها الصحيح، وعندما يداهمنا النسيان نشعر بسلبية تجاهه وكأنما يذكرنا بانتقاص شيء ما منا، وأغلب الأحيان لا نحمل نفس هذا الشعور مع التذكر، ونشعر بتهديدات النسيان لنا ولذاكرتنا!!، مشيرة إلى أن النسيان قد يكون عزاء لنا لنستأنف ما بعد تلك اللحظة المفقودة من جديد لمجابهة ثقل هذا الوجود وولادة لحظة بداية مختلفة.
مجاذبة النسيان
واسترسلت د. منى الحمود قائلة: النسيان هو لحظة تبعدنا عن الوجود لنبقى فيما وراء واقعنا، وكأننا ننتقل لواقع مغاير (ميتافيزيقي) قد تأتي لحظة جديدة تنسينا لحظة قبلها تماماً، وبحسب الواجب الأخلاقي مع الزمن وولاء له ننكر اللحظة الأولى وكأنها لم تكن أصلاً، كأننا نغيبها من مشهد عالمنا، والنسيان هو مجاذبة بين الحاضر الذي ننسى فيه والماضي الذي ننساه حتى لوكنا في نفس اللحظة، إنها مفارقة غريبة أن تقف في لحظة ما بين زمنين لا يلتقيان أبدا، والفرحة بعودة شيء من زمن النسيان قد تكون مكلفة ومربكة حقاً كتذكر حادث أليم في حياة الإنسان، أو ذكرى موجعة له. غير أنا لا نجد وحتى الآن ما نبرر به بهجة التذكر وخيبة النسيان.
النسيان واضطراب الذاكرة
وتؤكد الدكتورة لمياء السيد سليمان أخصائية أمراض الباطنية بالرياض أن النسيان ليس بالضرورة مرضًا في جميع الحالات، فقد يكون ناتجًا عن عوامل طبيعية أو مؤقتة مثل: الإرهاق أو التوتر، ولكن إذا كان النسيان شديدًا ومستمرًا ويؤثر على الحياة اليومية، فقد يكون ذلك علامة على اضطراب أو مرض، مثل: الخرف (كالزهايمر) أو اضطراب الذاكرة الناتج عن أسباب أخرى.
وكشفت د. لمياء السيد سليمان أخصائية أمراض الباطنية الأسباب المحتملة للنسيان واضطراب الذاكرة، ومنها: أسباب نفسية، مثل: القلق أو التوتر، والاكتئاب، واضطرابات النوم (مثل: الأرق)، وهناك أسباب عضوية، مثل: نقص الفيتامينات، خاصة فيتامين B12، وقصور الغدة الدرقية، مع مشاكل في الدورة الدموية، مثل: ضعف تدفق الدم إلى الدماغ، وإصابات الدماغ أو السكتة الدماغية، والتقدم في العمر، بالإضافة إلى عوامل أخرى، مثل: استخدام بعض الأدوية كالأدوية المهدئة أو المنومة، وتعاطي الكحول أو المخدرات، وأمراض عصبية، مثل: الزهايمر أو الخرف بأنواعه، والإجهاد المزمن.
وأشارت أخصائية الباطنية إلى أن العلاج يعتمد على السبب، ويتضمن: العلاج الطبي، ويتمثل في معالجة الأمراض المسببة مثل: نقص الفيتامينات أو مشاكل الغدة الدرقية، ومراجعة الأدوية التي قد تسبب النسيان، وأدوية خاصة لتحسين وظائف الدماغ (في حالة الزهايمر أو اضطرابات مشابهة)، وكذلك العلاج النفسي، ويتمثل في تقنيات تقليل التوتر، كالاسترخاء أو العلاج السلوكي المعرفي، وتحسين نمط الحياة للتخلص من الاكتئاب أو القلق، إضافة إلى تعديل نمط الحياة، وذلك من خلال تحسين جودة النوم، وممارسة الرياضة بانتظام لتحسين تدفق الدم إلى الدماغ، وتناول نظام غذائي متوازن يحتوي على أطعمة غنية بأوميغا 3 ومضادات الأكسدة، وتقليل الكحول أو الامتناع عنه، وكذلك التمارين العقلية المتمثلة في ألعاب تقوية الذاكرة وحل الألغاز، والقراءة أو تعلم مهارات جديدة لتحفيز الدماغ.
وشددت د. لمياء السيد سليمان أخصائية أمراض الباطنية بالرياض إلى وجوب زيارة الطبيب المختص إذا كان النسيان مفاجئًا أو شديدًا، وإذا كان يعيق أداء المهام اليومية، وإذا كان مصحوبًا بأعراض أخرى مثل: تغيرات السلوك أو صعوبات في التحدث، مفيدة بأن التقييم المبكر يساعد في علاج المشكلة وتحسين جودة الحياة.