د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
في مقال سابق بعنوان «حرب غزة ونظرية المؤامرة»، طُرحت تساؤلات حول ما إذا كانت أحداث 7 أكتوبر مفاجئة بالفعل لإسرائيل أم أن هناك غفلة مصطنعة سمحت بحدوثها. اليوم، تتكاثر المؤشرات والتحقيقات التي تدعم نظرية أن الهجوم لم يكن مباغتًا للقيادة الإسرائيلية، بل جرى تجاهله عمدًا لاستغلاله كذريعة لتحقيق هدف مرسوم مسبقًا. لهذا لم تعد فرضية المؤامرة التي تحيط بهجوم 7 أكتوبر مجرد خيال سياسي أو سردية شعبوية، بل باتت مدعومة بتسلسل منطقي من التصريحات الإسرائيلية الرسمية، والتصرفات الميدانية، والتحولات الجيوسياسية، التي تؤكد أن ما حدث لم يكن مفاجئًا لصناع القرار في إسرائيل، بل لحظة كانت تُنتظر لتُستخدم كذريعة لإطلاق خطة مسبقة الإعداد.
منذ اليوم الأول، كانت تصريحات الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ المتكررة عن «تشكُّل شرق أوسط جديد» لافتة للانتباه، فعبارته تلك مشحونة دلاليًا، وتوحي ضمنيًا إلى أن ما يحدث في غزة هو جزء من هندسة سياسية كبرى لتُعيد رسم موازين القوى بالمنطقة. وقد عزز هذا الاتجاه أيضًا تصريح رئيس الحكومة نتنياهو بعد أسابيع من الحرب بقوله: «لقد حققنا إنجازات تاريخية ونعمل على تغيير شكل الشرق الأوسط»، وهو عادة ما لا يُقال عن استجابة عسكرية طارئة ضد فصيل مسلح، بل تشير إلى الشروع في تطبيق خطة استراتيجية مبيت لها مسبقًا.
ومما يجدر ذكره أيضًا ما كانت قد نشرته صحيفة هآرتس عن عدم تصدي وحدات الجيش الإسرائيلي لعبور وحدات حماس للداخل الإسرائيلي، وأن هناك شبهات بتلقي وحدات من الجيش أوامر بعدم التحرك الفوري، وهو ما يعكس مستوى غير مفهوم من «الغفلة» لدى دولة يرتكز أمنها القومي على الرصد والتحليل الاستباقي.
كما أن إقرار الجيش الإسرائيلي نفسه بأن ما جرى كان «إخفاقًا كاملاً»، بينما بدا رده وكأنه ينفذ مخططًا شاملاً استُدرجت له حماس بدهاء، فدمر البنية التحتية لغزة، واستهدف البيئة الحاضنة لحماس بالكامل، وقتل عشرات الآلاف وهجر قصرًا مثلهم، فيما يشبه بسياسة الأرض المحروقة. لقد أكدت تصريحات نتنياهو اللاحقة أيضًا ما نعنيه فيما بين السطور، وذلك في قوله: «قبل 7 أكتوبر لم تكن لدينا الشرعية المحلية ولا الدولية لإعادة احتلال غزة، والوضع اختلف الآن»، وهو اعتراف صريح بأن الهجوم وفّر غطاءً سياسيًا لإطلاق عملية عسكرية واسعة، لم تكن تحظى بقبول داخلي أو خارجي من قبل، فهذا التصريح لا يعكس فقط طبيعة الرد الإسرائيلي، بل يكشف أن التوقيت والظروف هُيِّئت لإيجاد فرصة نادرة لتغيير قواعد اللعبة.
وما يدعم هذا المنظور هو السلوك اللاحق للحكومة الإسرائيلية على جبهات أخرى، حيث توسعت جبهات الحرب لتشمل لبنان وسوريا واليمن، وتزايد الحديث عن «الحرب الشاملة»، وهي مصطلحات لم تكن دارجة قبل هذا التاريخ، كما أن نبرات التصريحات السياسية التي تبنّت هذا النهج اتسمت بالثقة والتصميم، وكأن الأمر لا يتعلق بإدارة أزمة، بل بتنفيذ سيناريو طويل الأجل تم التمهيد له بدقة.
وعلى الجانب الآخر، تقوم الحكومة الإسرائيلية باستغلال الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية لتمرير مخططاتها الاستيطانية غير المسبوقة، في ظل انشغال عالمي كامل برصد مجريات الحرب وغياب تام للعدالة الدولية.
كما بدا موقف المجتمع الدولي مهيأً لتقبّل ما لم يكن ممكنًا من قبل، فالضغط الغربي خفت بشكل لافت، والإدانات تراجعت، والدعم المالي والعسكري استمر بوتيرة أقوى، وهو ما يُظهر أن الهجوم - رغم فظاعته - قد أطلق ديناميكية سياسية سمحت لإسرائيل بفرض واقع جديد لم تكن قادرة على تحقيقه في ظروف أخرى. وهنا يمكن القول إن هجوم حماس في 7 أكتوبر كان عنصرًا حاسمًا خُطط لتوظيفه، واستُدرجت إليه بأساليب استخباراتية عالية الحرفية، فالتخدير، والتجاهل، والرد الحاسم هي كلها مكونات لمسرح عمليات لا تكتمل صورته إلا إذا قرأناه باعتباره مشهدًا من مؤامرة صامتة، لا يدرك حقيقة خيوطها إلا قلة في أرفع دوائر القرار الإسرائيلي.
بهذا المنظور، تتحول أحداث 7 أكتوبر من لحظة عسكرية عابرة إلى نقطة انطلاق لمخطط سياسي إقليمي أُعد بعناية، واستُثمر بذكاء، وتُرك له أن يبدأ بيد حماس، لكي يُختم بمحاولة إعادة تشكيل المنطقة، وفق الرؤية الإسرائيلية.
كل هذه الشواهد، مجتمعة، لا تجعل من نظرية المؤامرة مجرد احتمال، بل رؤية تحليلية مبنية على تسلسل منطقي من الأدلة. وما يزيد من ثبات هذه الفرضية هو استمرار نتنياهو في منصبه رغم كل الإخفاقات العسكرية والسياسية، وهو ما يشير إلى أن ما جرى يخدم مشروعًا أكبر بكثير من مجرد مواجهة مع تنظيم مسلح. إن المؤامرات الكبرى لا تُعلن عن نفسها في نشرات الأخبار، بل تُصاغ بهدوء، وتُدار بخيوط غير مرئية، وتُروى في ظاهرها كقصص أمنية معقدة. فما حدث في 7 أكتوبر يبدو، بكل تفاصيله، أشبه بمخطط أُحكمت حبكته بدقة، وأُطلقت شرارته بيد الخصم، لكنه صبَّ في مصلحة من كان ينتظر لحظة الانقضاض على كل شيء دفعة واحدة. إنها مؤامرة صامتة، لا يدرك حقيقتها إلا من أجاد الربط بين الحدث والسياق، وبين العلن والخفي، وبين الذريعة والخطة الأصلية.