د. نعيمة بنت عصيد العنزي
لعل من بين دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إخباره عن ماض لم يعشه، واستشرافه لمستقبل مات قبل أن يراه، ومن ذلك ما جاء بياناً لحال البيئة والطبيعة في أرض الجزيرة العربية، فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً). وكلمة تعود في هذا النص النبوي تحمل إعجازين اثنين، الأول: أن أرض العرب كانت مروجاً وأنهاراً في عصور خلت، والثاني: أنها ستعود كذلك في آخر الزمن.
وفي ذات السياق ومن هذا الباب اطلعت في الأيام الماضية على عدد من الأبحاث والأوراق العلمية المحكمة والمنشورة في مجلات ذات تصنيف علمي عالٍ، تولي اهتماماً كبيراً للتاريخ الجيولوجي للمملكة العربية السعودية لما يحمله هذا التاريخ من أسرار عن تطورات الطقس والمناخات والكائنات الحية المصاحبة، ومنها ثلاثة أوراق علمية صدرت حديثا في 2025.
تناولت الورقة الأولى التي بعنوان: الثدييات الكبيرة المفقودة في شبه الجزيرة العربية: (The Lost Large Mammals of Arabia) أنواع الحيوانات التي أثبت وجودها في العصر الهولوسين أي قبل حوالي 12 ألف سنة ومنها الأسد والأُرْخُص أو الثور البري، الفهد، الحمار البري، الجمل البري، الكَوْدُ الصغير، المها العربي، الماعز والأغنام البرية.
واللافت للنظر في هذا البحث أن هذه الكائنات شديدة الارتباط بالغابات من نوع السافانا Savanna المتكونة من أشجار متفرقة تتخللها كمية كبيرة من الأعشاب العلفية لكل هذه الثديات العاشبة.
وقد اعتمد هذا البحث على قاعدة بيانات للتقارير الأثرية والتاريخية، إضافة إلى فحص آلاف الصور الصخرية المنشورة وغير المنشورة.
وجاء في ورقة علمية ثانية موسومة بـ(بصمة الرياح الموسمية على البيئات الطبيعية في أواخر العصر الجيولوجي الرابع في صحراء الربع الخالي) (Monsoonal imprint on lateQuaternary landscapes of the Rub’ al Khali Desert) أن السجلات الجيومورفولوجية والبيولوجية والنظائرية الوفيرة أثبتت أن شبه الجزيرة العربية شهدت عدة فترات شديدة الرطوبة خلال وما قبل العصر الهيلوسين Holocene مما يعيد بناء مشهد طبيعي قديم منحوت بالماء يتكون من رواسب بحيرات وأنهار تتخلل غابات كثيفة، إلى جانب وادٍ كبير تحت صحراء الربع الخالي بالمملكة العربية السعودية.
وفي ورقة حديثة عنوانها (فترات الرطوبة المتكررة في شبه الجزيرة العربية على مدى الثمانية ملايين سنة الماضية) (Recurrent humid phases in Arabia over the past 8 million years) أثبت الباحثون أن أقوى فترة رطوبة ترجع الى ماضٍ بعيد من مليون إلى ثمانية ملايين سنة: Miocene -Pliocene -pleistocene حيث ظهرت العديد من الكائنات المرتبطة بكثرة الأمطار مثل التماسيح، والخيول، وأفراس النهر، والخرطوميات أو الفيلة.
يتبين للقارئ الكريم من خلال هذه الأوراق وما ماثلها أن المملكة العربية السعودية مرت في العصور القديمة الى ما قبل حوالي 10000 سنة بالعديد من فترات الرطوبة وكانت مروجاً وأنهاراً وغابات عاش بها العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية، وأن ما تعيشه المملكة اليوم من تزايد في كميات الأمطار في العديد من المناطق قد يبدو بداية فترة رطوبة كبيرة جديدة، مما يعني تطابق ما انتهت إليها الأبحاث العلمية المتخصصة مع ما جاء نصاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أرض العرب ستصبح مروجاً وأنهاراً بعد بضع آلاف السنين وليس ملايين السنين، والله أعلى وأعلم، وما زال الكثير من القضايا التفصيلية ذات الصلة بالتغير المناخي الماضي منه وما هو قادم في مستقبل السنين متاحة أمام البحث العلمي الرصين. في ظل هذه التغيرات المناخية الكبرى، كانت ولله الحمد سياسة قيادتنا المباركة في الاهتمام الكبير بالبيئة انطلاقاً من رؤية المملكة 2030 أنموذجاً رائعاً في تحقيق التناغم والتوازن البيئي مع رفاهية المواطن وجودة الحياة، ولا أدل على ذلك من إطلاق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الأمين رئيس مجلس الوزراء مبادرة (السعودية الخضراء) التي تستهدف تشجير السعودية بحوالي 10 مليارات شجرة من أشجارنا المحلية ضمن خطة محكمة تشمل العديد من الأشجار والشجيرات والنباتات ذات القيمة الاقتصادية والبيئية العالية والتي ستعود حتماً بالنفع على الوطن وجعل المروج والأنهار في صالح الاقتصاد وعودة البيئات الأصلية والاستدامة البيئية.
وحتماً لابد أن يتواكب مع هذا الجهد المبذول من قبل ولاة أمرنا وفقهم الله مساهمتنا كل حسب موقعه في خارطة الوطن في تحقيق بيئة صحية نظيفة، كما أن من مسؤوليات الجهات ذات الصلة بالبيئة وسلامة الإنسان ومشاريع جودة الحياة وضع إستراتيجيات وخطط سريعة لمنع انتشار النباتات الغازية مثل البرسوبس وما ماثلها من النباتات الخطيرة التي دخلت تراب المملكة فأصبحت تهدد بشكل مباشر المنظومات البيئية والتنوع الأحيائي للمملكة العربية السعودية، وليكن كل مواطن شريكا حقيقيا في صحة البيئة وسلامة وسعادة إنسان هذا الوطن، ولنعش نحن والأجيال القادمة في دولة خضراء، ترفرف فوق ربوع أراضيها رايتها الخضراء المزدانة بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
** **
- جامعة حائل