إيمان حكيم
«كل إناء بما فيه ينضح»، هكذا اعتدنا أن نقول حين نتحدث عن الجوهر الذي لا يخفى، والمعاني التي تفضح نفسها رغم الصمت. لكن يبدو أن المثل تغيّر قليلًا في زمننا الحديث، فأصبح «كل رداء بما فيه ينضح»، وصار اللباس هو ما يتحدث، ويُمنح الصوت، ويُفتح له المايك، بينما يُترك الإنسان – إن لم يُحسن المظهر – بلا سؤال.
في الآونة الأخيرة، انتشرت ظاهرة المقابلات العشوائية في الشوارع، التي لا تسأل الناس عما يقرؤون أو يفكرون أو يحلمون، بل تسألهم عن «الآوتفيت»، وسعر الساعة، وماركة الحذاء، وأحيانًا لوحة السيارة إن كانت تسمح بالتصوير. أسئلة خفيفة في ظاهرها، لكنها تحمل في طيّاتها مفارقة ثقيلة: لقد أصبح الحديث يبدأ من الرداء، وقد لا يتجاوزه.
المفارقة الأكبر أن هذه المقابلات لا تُجرى إلا مع من يلبسون ما يُلفت، ويقودون ما يُبهر. سبحان الله، لا تمر الكاميرا –غالبًا– إلا على الطبقة المخملية، ولا تصطاد إلا من تنطق هيئته بالفخامة. وكأن الكاميرا ذاتها، بعينها الخفية، أصبحت تعرف أن اللقاء لا يكتمل إلا مع أولئك الذين تُقاس أناقتهم بأرقام خمسية، وتُعلّق على معاصمهم ساعات تتجاوز رواتب كثير من الموظفين، وربما يركبون سيارات بأرقام سباعية، ولوحات أغلى من السيارات ذاتها. ولا مشكلة في الرفاه، لكن المعضلة تبدأ حين تكون قيمة الإنسان مستمدة مما عليه، لا مما فيه، وأن يكون حضوره العقلي والثقافي لا يتجاوز حدود ما يرتديه؛ حين يصبح الثوب أثمن من الفكر، والحذاء أكثر حضورًا من الحجة.
إن هذه الصورة المتكررة تُغذّي شعورًا ثقيلًا لدى كثيرين. شعورٌ بالتفاوت، بالاستبعاد غير المعلن، بالإقصاء الناعم - تحت غطاء العصرية - كأن من لا يلبس ماركة لا يستحق أن يُسأل؛ حيث بات القبول المجتمعي مشروطًا بسعر «الآوتفيت»، لا بمحتوى العقل. وهذا النوع من الخطاب يصنع طبقية ناعمة، تتسلّل إلى وعي الأجيال، وتخبرهم ضمنًا أن «الحديث لمن يملك، لا لمن يُفكر».
لسنا ضد الأناقة، ولا ضد أن يلبس المرء ما يُحب، لكننا فقط نُحب أن يبقى الإنسان هو الأساس، لا غلافه، وأن تظلّ الأسئلة الكبرى حاضرة، حتى لو كانت الكاميرا تفضل الماركات؛ لأن الفراغ لا يُعلن عن نفسه بالصمت.. بل بكثرة الضجيج حول ما لا يستحق. وكل رداء، في النهاية، لا يُجمل صاحبه ما لم يكن في داخله ما ينضح به فعلًا.