أحمد بني قيس الشهري
في زمنٍ تتسارع فيه الأصوات وتتنازع فيه الآراء بات من الضروري أن نفرّق بين الكلمة التي تُبنى كلبنة في جدار التقدّم وتلك التي تُلقى كمعولٍ على جدار الإبداع، فليست كل ملاحظة تُقال نقداً ولا كل اعتراض يُعدّ وجهة نظر وهنا تتجلّى الحاجة الملحّة إلى التمييز بين مفهومي النقد والانتقاد، تمييزاً لا على مستوى اللفظ فحسب، بل حتى على مستوى الجوهر والغاية.
إن النقد في جوهره فعلٌ معرفي راقٍ يستند إلى العقل والمنطق ويقوم على التأمل والتحليل وهو مرآة تعكس الحقيقة دون تشويه وميزان يزن الأمور بإنصاف لا بميول شخصية، فالناقد الحقّ لا يهدف إلى الهدم، بل يسعى إلى التقويم والتصويب، مبرزاً الجمال إن وُجد ومنبهاً على الخلل إن وقع بأسلوب هادئ وموضوعي، فالناقد الحصيف لا يكتفي بالكشف عن مواضع النقص، بل يُضيء طريق الإصلاح ويقترح البدائل والحلول، ما يجعل النقد عنده دعوة للرقيّ وحافز نحو الإبداع وهذا بالطبع يتطلب ثقافة واسعة ونزاهة في الطرح.
أما الانتقاد فهو غالباً ما يُمارَس بدافع الانفعال لا العقل وبنبرة التهكم لا الحكمة، حيث يُركّز المنتقِد على العيوب والنقائص ويتجاهل مواطن القوة والتميز وكأن هدفه الوحيد هو الإسقاط لا الإبراز والهدم لا البناء، حيث يغيب عنه العدل والموضوعية؛ نتيجة لسيادة مشاعر الاستياء أو الغيرة أو التصيّد، فالمُنتقِد لا يُعنى بإيجاد الحلول ولا يبذل جهدًا في التحليل، بل يكتفي بإلقاء الأحكام التي تُلقى أحياناً بلغة جارحة أو بأسلوب ساخر منفّر لا يُسهم إلّا في بث الإحباط والنفور.
ولتبسيط المسألة أكثر يمكننا أن نعتمد أربعة أوجه للمقارنة بين النقد والانتقاد أول وجه الدافع، فالنقد معني فقط بالإصلاح والتقويم، بينما الانتقاد يكون دافعه فقط التجريح والاعتراض والوجه الثاني الأسلوب، فأسلوب النقد غالباً ما يكون راقيًا وموضوعيًا ومتزنًا، أما الانتقاد فيغلب عليه التشنج والقسوة والوجه الثالث المضمون الذي نجده في حال النقد يناقش السلبيات والايجابيات معاً. أما في حال الانتقاد فلا يناقش إلا السلبيات فقط والوجه الرابع النتيجة والتي تكون عند النقد باب من أبواب التقدم والتطور، بينما نجدها عند الانتقاد سببًا من أسباب الإحباط والتخلف.
ختاماً، علينا إدراك أن الفرق بين النقد والانتقاد خيط رفيع لا يميزه إلا ذوو البصائر النقيّة والنفوس المنصفة، فكم من كلمةٍ قيلت على هيئة نصيحة، لكنها كانت سهماً من سهام الانتقاد السلبي وكم من نقدٍ عاقلٍ كان سبباً في ازدهار موهبة أو نهوض فكرة، لذا فإنّنا أحوج ما نكون اليوم إلى نقدٍ يستند إلى الوعي والمعرفة ويهدف إلى البناء لا الهدم وإلى التوجيه لا التشويه.