نجلاء العتيبي
في حياة الإنسان، تقف الخيارات الوظيفية كمفترق طُرُقٍ لا يشبه سواه، ليست مجرد قرارات تتعلَّق بالراتب أو المسار المهني، بل هي اختيارات تكشف عن جوهره، وتضعه أمام ذاته، متأملاً في ملامح مستقبله، محاولاً رسم معناه الخاص للنجاح.
فالوظيفة في صورتها الصافية وسيلةٌ لصياغة حياة تحمل ملامح من القناعة والرضا، غير أن هذا الرضا لا يُمنح من الخارج، بل يتكوَّن في الداخل، ويُصنَع عبر التراكم، ويتشكَّل من تجارب تتداخل فيها الرغبة بالمسؤولية والحلم بالواقع. وحين يختار الإنسان طريقه المهني فإنه لا يُقرِّر مهنة فحسب، إنه يختار أسلوبًا لحياته، يُحدِّد نوع التعب الذي سيرافقه، ونوع الإلهام الذي سيقوده كلَّ صباح.
ونظرًا لتباين الظروف وتعدد البيئات فقد يجد كثيرون أنفسهم يسلكون دروبًا لم تكن في الخيال، لكنها كانت الأقرب إلى الواقع الممكن أو الأوفى لتطلُّعات آنيَّة فرضتها ضرورات معينة. وهنا، لا تفقد الخيارات قيمتها، بل تكتسب بعدًا أعمق؛ إذ تُعبِّر عن مرونة الإنسان في التكيُّف، وقدرته على صناعة المعنى حتى من الطرق التي لم تكن يومًا على خارطة الأمنيات.
فالفطنة لا تكمن في البدء من حيث نحبُّ، بل في تحويل البداية، كيفما كانت إلى مسارٍ يحمل بصمتنا، فالخيار ليس فقط في لحظة اتخاذ القرار، بل فيما نفعله بعده، وفي قدرتنا على تحويل العمل اليومي إلى منصة للنمو لا مجرد وسيلة للإنجاز.
الاختيار المهني المتَّزن لا ينبني فقط على الإمكانات الظاهرة، بل يتطلب إنصاتًا لما تحمله الروح من شغفٍ، ولتلك البدايات الصغيرة التي لمعت فينا ذات طفولة. وليس كافيًا أن يُتقن الإنسان ما يفعله، بل أن يشعر بأنه يُضيف شيئًا إلى الحياة من خلاله، ولو كان بسيطًا. في المقابل قد تصبح حتى الوظائف المرموقة ثقيلة إن لم تكن قريبة من جوهر الإنسان.
ولهذا، فإن أنضج القرارات تلك التي لا تُتخذ في لحظة اندفاع، بل تتشكّل بهدوء، ويصقلها الصبر، وتُنضجها الخبرة؛ لأن القيمة الحقيقية لا تُقاس بما يُقال عن الوظيفة، بل بما يشعر به صاحبها حين يعود إلى نفسه في آخر اليوم، متعب الجسد لكنه مطمئن الفكر. وليس كل تغيير في المسار بحثًا عن مخرج، كما أن البقاء في وظيفة واحدة لا يعني دومًا اكتفاءً.
هناك من يرحل؛ لأنه يُحسن الإصغاء إلى ذاته، وهناك من يواصل؛ لأنه يرى في الاستمرارية أرضًا خصبة للعمق، والأهم من ذلك كله هو الصدق مع الذات، والقدرة على التمييز بين الحاجة إلى التجدُّد، والحاجة إلى الثبات.
فالخيارات الوظيفية ليست مسألة مرتبطة بالوظيفة فقط، بل بأسلوب الإنسان في النظر إلى الحياة.
هل يرى العمل ساحة للنمو، أم وسيلة للاستقرار، أم فسحة للابتكار؟ كل إجابة تحمل فلسفة خاصة، وهي التي تُشكِّل الوجهة أكثر مما يفعل الإعلان الوظيفي أو المسمَّى المهني.
وفي عصر تتجدَّد فيه المفاهيم، وتُولد فيه مسارات جديدة كل يومٍ، وتتَّسع فيه زوايا الفهم، تصبح الخيارات أعمق من مجرد وظيفة، والنجاح لم يعد محصورًا في البقاء، بل في المرونة، في التعلُّم المستمر، وفي إبقاء الروح حيَّة وسط التغيير.
وحين يطوي الإنسان صفحاته الأخيرة في مسيرته العملية لن تُحصى إنجازاته بعدد الوظائف التي شغلها، بل بما زرعه خلالها من أثرٍ، وبما أبقاه من نورٍ في وجوه من رافقهم، وبما تركه في ذاته من شعور بأنه سار في طريقه بإرادةٍ، وكتب فصول رحلته بكثير من الشغف والاتزان.
ضوء
ليست الوظيفة ما نفعله فقط، بل ما نُصبح عليه ونحن نفعل.