عيسى مفرح
المكان في الفيلم الوثائقي ليس مجرد خلفية ثابتة أو موقع جغرافي عادي، بل هو عنصر أساسي يمكن أن يتحول إلى «شخصية» حية تساهم في تعزيز السرد وتوضيح الرسالة التي يسعى الفيلم لنقلها. في الوثائقي، يُستخدم المكان بطرق متعددة: من تصوير البيئة المحيطة بالشخصيات إلى توظيف الأماكن للتعبير عن الهوية الثقافية أو الاجتماعية أو التاريخية. يصبح المكان في هذا السياق جزءًا لا يتجزأ من القصة، ليس فقط من خلال ملامحه المادية بل من خلال تأثيره العاطفي والاجتماعي.
المكان في الوثائقي يمكن أن يعكس مشاعر معينة ويسهم في تحديد الحالة النفسية للأحداث والشخصيات. إذا كان الفيلم يروي قصة معاناة جماعية أو بيئية، يمكن أن يظهر المكان كرمز لتلك المعاناة. على سبيل المثال، في فيلم «The Cove» (الخليج)، الذي يتناول موضوع صيد الدلافين في اليابان، يصبح البحر نفسه «شخصية» في القصة. البحر في هذا السياق ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو رمز للعنف والطبيعة التي تشهد مأساة إنسانية وحيوانية، مما يعزز من قوة الرسالة البيئية التي يسعى الفيلم لنقلها.
لذا يُعتبر المكان عنصرًا مهمًا في تسليط الضوء على الهوية الثقافية أو الاجتماعية للمجتمعات المعنية في الفيلم.
في الأفلام التي تستعرض أحداثًا تاريخية أو ثقافية، يصبح المكان جزءًا من الهوية نفسها. في فيلم «13th» للمخرجة إيفيا دو فيرنوي، الذي يركز على العنصرية في الولايات المتحدة، يُعتبر السجن والمرافق الإصلاحية أماكن تعكس تاريخ الظلم الاجتماعي تجاه الأقليات العرقية، مما يجعل المكان عنصرًا رئيسيًا في تطوير الرسالة الاجتماعية للفيلم.
وفي وجه آخر يُستخدم المكان كأداة درامية وجمالية. يمكن أن يتم تصوير المكان باستخدام تقنيات تصوير معينة مثل الزوايا، الإضاءة، والألوان، لتوصيل رسالة معينة أو تعميق تأثير المشاعر. في فيلم «Won»t You Be My Neighbor» الذي يتناول حياة فريد روجرز، تصبح الأماكن التي عُرفت بتأثيرها الكبير على شخصيته، مثل استوديو الأطفال، رموزًا للحب والرحمة التي بثها في المجتمع.
المكان أيضًا قد يتطور مع تقدم الأحداث، حيث يمكن أن يصبح شاهدًا على التغيرات الاجتماعية أو البيئية التي يعكسها الفيلم.
في فيلم «Chasing Ice» (مطاردة الجليد)، الذي يتتبع حياة المصور جيمس بالوغ أثناء تصويره ذوبان الأنهار الجليدية في مناطق نائية، يصبح المكان في حد ذاته شاهدًا على التغيرات المناخية التي يعاني منها كوكب الأرض. كل موقع يتم تصويره يعكس تحولًا بيئيًا قد يساهم في إيصال الرسالة البيئية للفيلم.
المكان في الفيلم الوثائقي هو أكثر من مجرد موقع أو خلفية ثابتة. إنه شخصية حية تسهم في بناء السرد وتعزيز الرسالة العاطفية والتاريخية، وتوفير السياق الاجتماعي والبيئي الذي يساعد في توجيه رسالة الفيلم.
من خلال تصويره بطرق مبتكرة، يصبح المكان عنصرًا أساسيًا في نقل القصة وإيصال تأثيرات عميقة للمشاهد.