جانبي فروقة
ما تزال الحرب التجارية مستعرة بين التنين الصيني وبلاد العم سام، وقد ردّت الصين مؤخراً على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على دول محددة، برفع رسومها الجمركية على السلع الأمريكية من 84 % إلى 125 %، وأكدت إدارة ترامب أن معدل الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية يبلغ فعليًا 145 %. وللعلم في عام 2024 م استوردت الولايات المتحدة 463 مليار دولار من الصين وصدرت 199 مليار دولار لها.
علَّق جيفري ساكس المفكر الاقتصادي العالمي قائلاً: إن ترامب أضعف قوة أمريكا وزاد من عزلتها في العالم، فخلال 24 عاماً تضاعف حجم اقتصاد الصين 15 مرة مقارنة مع مرتين فقط للاقتصاد الأمريكي، والصين اليوم تستحوذ على 30 % من حجم قطاع الصناعة العالمي بينما تستحوذ أمريكا على 15 % من هذا القطاع، واستثمارات الصين في الطاقة المتجددة تجاوزت حجم ما تستثمره أمريكا والهند وكندا معاً. وتبني الصين شبكة علاقات تجارية واقتصادية مع العالم فخلال 8 أعوام أنفقت الصين 9 أضعاف ما أنفقته الولايات المتحدة الأمريكية على مشاريع البنية التحتية حول العالم بقيمة 679 مليار دولار (ديون صينية تنموية في العالم) مقارنة بـ 76 مليار دولار (ديون أميركية تنموية في العالم)، وباتت الصين لاعباً أساسياً في مجال الفضاء والذكاء الاصطناعي والابتكار، فخلال 2023 م بلغت طلبات براءات الاختراع الصينية 798 ألف طلب وهي ضعف عدد طلب براءات الاختراعات الأمريكية. وفي مقابلة حديثة، صرّح تيم كوك (الرئيس التنفيذي لشركة أبل Apple) بأن الصين لم تعد خيارًا للتصنيع بسبب انخفاض التكاليف، بل لأنها تملك عددًا هائلًا من العمال المهرة في موقع واحد، وأوضح كوك أن جودة وكفاءة القوى العاملة في الصين تجعلها مثالية لتصنيع منتجات آبل المتقدمة. وأضاف أن مهندسي الأدوات نادرون في أمريكا، بينما يمكنك ملء ملاعب كاملة بهم في الصين، وأتت هذه التصريحات وسط تحديات تواجهها آبل بسبب الرسوم الجمركية الأميركية على الصين، ويرى كوك أن استبدال الصين كمركز تصنيع عالمي أمر بالغ الصعوبة حاليًا.
لطالما كان الدولار الأمريكي رمزًا للثقة والاستقرار، لكنه اليوم أصبح مصدر قلق عالمي. فقد انخفضت قيمته بنسبة 9 % منذ يناير2025 م، رغم ارتفاع العوائد على السندات الأمريكية، ما يعكس شكوكًا متزايدة في استقرار الاقتصاد الأمريكي. ويزداد اليوم الوضع المالي الأمريكي سوءاً فقد بلغ صافي الديون الأمريكية 100 % من الناتج المحلي الإجمالي وكان عجز الموازنة الماضي قد بلغ 7 %، ووفقًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية، بلغت قيمة سندات الخزانة الأمريكية التي تحتفظ بها الدول الأجنبية 8,5 تريليون دولار أمريكي اعتبارًا من ديسمبر 2024. وتصدرت اليابان والصين حصة الأسد من هذه الديون، حيث بلغت قيمة سندات الخزانة الأمريكية التي تحتفظ بها الصين 759 مليار دولار أمريكي.
إن المستثمرين الذين لطالما اعتمدوا على السوق الأمريكية بدأوا يتخلون عن الدولار، وسط مخاوف من السياسات الاقتصادية للرئيس ترامب، خاصة مع ارتفاع الديون الأمريكية إلى مستويات خطيرة، واقتراحات بتوسيع العجز المالي عبر خفض الضرائب مجددًا. وقد أقر الكونغرس مؤخرًا خطة قد ترفع العجز بـ 5,8 تريليون دولار خلال العقد المقبل ومع تصاعد هذه المخاطر، بدأت الأسواق تُعيد حساباتها: هل أمريكا ما زالت تستحق ثقة العالم؟ السياسات العشوائية، الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي، وتراجع التزامات واشنطن بالحوكمة المالية، كلها مؤشرات مقلقة!.
لا يزال الدولار أقوى عملة في العالم، لكن هشاشة المشهد السياسي والمالي في أمريكا قد تُغيّر قواعد اللعبة. فمع تضعضع الثقة، قد يكون العالم على أبواب أزمة مالية جديدة، ليس في الأسواق الناشئة... بل في قلب الاقتصاد العالمي نفسه. وتتجاوز المواجهة بين الولايات المتحدة والصين حدود التجارة والاقتصاد، لتتحول إلى صراع شامل على النفوذ العالمي. فهل تستطيع واشنطن حسم هذه الحرب المعقدة لصالحها؟ وما هي أسلحتها الحقيقية في هذا السباق المحموم؟
تملك الولايات المتحدة أدوات مالية ضخمة، أبرزها هيمنة الدولار على النظام النقدي العالمي، ما يمنحها قدرة استثنائية على فرض العقوبات وعزل الصين عن شبكات التمويل الدولية. كما تتحكم واشنطن في صادرات التقنيات المتقدمة مثل الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، وهي أدوات يمكنها شلّ الصناعات الصينية الحساسة.
وتستطيع أمريكا أن تتحرك بذكاء لتعزيز تحالفاتها، مثل الرباعي الأمني Indo-Pacific Quad الذي يضم الهند واليابان وأستراليا، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع كوريا الجنوبية والفلبين. وتسعى واشنطن لخلق طوق دبلوماسي واقتصادي يحدّ من تمدد الصين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ولا ننسى الرسائل الصامتة للردع العسكري فرغم أن الحرب العسكرية غير مرجحة في الوقت الحالي، إلا أن الولايات المتحدة لطالما لوحت بقوتها من خلال مناورات بحرية في بحر الصين الجنوبي، وتوسيع قواعدها في المحيط الهادئ، ما يُرسل رسائل واضحة لبكين بأن أي مغامرة في تايوان أو المحيط لن تمرّ بسهولة.
من سينتصر في النهاية ؟ الجواب ليس بسيطاً فالصين ليست الاتحاد السوفيتي، بل قوة اقتصادية ضخمة ذات نفوذ عالمي متنامٍ. ومع أن واشنطن تملك اليد العليا في عدة مجالات، إلا أن النصر يتطلب إدارة ذكية للتوازن بين الضغوط الاقتصادية، والردع العسكري، والتحالفات الدولية.
في عام 1773 م كانت بريطانيا تفرض على مستعمراتها الأمريكية ضرائب باهظة على الشاي، دون أن تمنحهم أي تمثيل سياسي في البرلمان وكانت شركة الهند الشرقية البريطانية، بدعم من التاج البريطاني، تملك احتكارًا لتجارة الشاي في المستعمرات. فغضب التجار والمواطنون في بوسطن، لأنهم شعروا أن بريطانيا تستخدم تجارتها وسلطتها لإذلالهم اقتصاديًا. وفي ليلة ماطرة، تنكّر مجموعة من الشبان الأمريكيين في هيئة هنود حُمر، وصعدوا على متن سفن بريطانية، وقاموا برمي شحنات كاملة من الشاي في البحر... فيما عُرف لاحقًا بـحفلة الشاي في بوسطن. (Boston Tea Party) وكان ذلك تصرفًا رمزيًا قويًا ضد الهيمنة التجارية، وأصبح شرارة الثورة الأمريكية لاحقًا. فهل بدأت الصين برمي التعرفات الجمركية الأمريكية في البحر أيضاً؟
في نهاية المطاف، قد لا يكون هناك فائز حقيقي في هذه الحرب التجارية... بل نظام عالمي جديد يولد من رحم الصراع.
** **
- كاتب أمـريكي