عبدالله إبراهيم الكعيد
كنت قد كتبت فيما مضى عن الحنجوريين. الحنجوريون وصف أطلقه الكاتب المصري الراحل فائق السخرية الشهير بـ(الولد الشقي) محمود السعدني. أطلق السعدني -رحمه الله- ذلك الوصف على أصحاب الحناجر المفتوحة على آخرها، أولئك الصارخون ليل نهار في محطات التلفزة العربية منها والأعجمية. وها هم اليوم يتصدرون ذات المحطات الفضائية التي تسوِّق اليوم محتواها وبرامجها على منصات الاتصال الجماهيرية وإدراجها ضمن مواقعها المتعدِّدة بهدف الوصول إلى قطاع أشمل وأكبر من المشاهدين في أصقاع المعمورة.
اليوم سأحكي لكم عن طواحين مختلفة. أفواها تنتج كلاماً ناعماً، تستحضر مخزونها من مفردات فخمة تُعيد من يسمعها إلى عصر المعلقات الشعرية ما قبل الإسلام. ميدانها ليس سوق عكاظ ولا مربد البصرة ذلك السوق الذي شهد منازلات أبرز شعراء العرب كالفرزدق وجرير.
إنها منازلات عصر مساحات (X) منصة تويتر سابقاً. سلاح بعض روادها وخصوصاً من لم يجد له ملاذاً لنشر (طحين) مفرداته اهتبل تلك المنصة تحديداً والمفتوحة على مصاريعها كي يبيع بضاعته المزجاة.
أقول عنها بضاعة وأنا مثل ذلك المتسوِّق الذي يدخل إلى سوق مفتوحة، كنت أدخل ذلك السوق كغيري كي أسمع وأرى (حسب مقولة: نحن نسمع ونرى ونستشرف)، حيث تتجاور هناك طواحين بأشكال مختلفة على هيئة أفواه مفتوحة. يتجمع المستمعون في تلك المساحات التي يتذاكى معظم من يفتحها بعناوين جاذبة، لامعة المفردات، مغرقة في التكلّف. ثم يبدأ المضيف أو مساعده في استعراض مخزونه اللغوي ويصبح الحال كما جعجعة بدون طحن.
الدكتور زكي نجيب محمود المفكر العربي صاحب كتاب (نحو فلسفة علميّة) يقول: «أما في مجال الفكر فما زالت طاحونة اللفظ هي صاحبة الدويّ الأعلى مع أننا نعيش في عصر مزدحم بقضايا الإنسان التي تمس حقوقه وواجباته ومعاملاته وأقداره وهي نفسها القضايا التي كنا نستطيع أن نستلهم فيها تراثنا الفكري» من حيث انتهى هذا القول أبدأ فأقول إن معظم من سألتهم عن مخرجات دخولهم ومشاركاتهم في تلك المساحات كانت النتيجة مخيبة للآمال. قال بعضهم إنهم خرجوا بخفي حنين. وقال البعض الآخر بأن من كانوا يعقدون الآمال عليهم بالفائدة وجدوهم أفرغ فكرياً من فؤاد أم موسى.
إذا كان عصرنا هذا مزدحماً بقضايا الإنسان حسب الفيلسوف زكي محمود فهل تكون الحلول مفردات فخمة وطواحين تنتج كلام في كلام؟
صفوة القول إن من أحد أهداف مشغلي تلك الطواحين وتكرارهم المكثّف للمفردات (الفقاعيّة) هو ترسيخها في الذاكرة طويلة المدى كمقباسِ للتذكير بمشروع فكري ربما يودون الوصول إليه. شخصياً ليس لدي إجابة مؤكدة.