د. داليا عبدالله العمر
في زمن تعصف فيه التحديات المجتمعية والتحولات النفسية المتسارعة، آن الأوان لإعادة النظر في أدوات فهم الإنسان، لا بوصفه مجرد رقم وظيفي أو حالة اجتماعية عابرة، بل ككيان نفسي متكامل بسماته وميوله وطاقاته الفريدة. ومن بين أهم هذه الأدوات تبرز اختبارات الشخصية، التي تجاوزت كونها مجرد وسائل للتقييم النفسي، لتتحول في الدول المتقدمة إلى أدوات إستراتيجية فاعلة تُوظَّف بكفاءة في مجالات التوظيف والتعليم والعلاقات، بل وفي صياغة السياسات العامة.
فكما أن فصيلة الدم تمثِّل جزءًا أساسيًا من الهوية الطبية التي تُستخدم لفهم طبيعة الجسد واحتياجاته، فإن نمط الشخصية يمثِّل المقابل النفسي لها، إذ يكشف خريطة داخلية دقيقة لصاحبه. هذه الخريطة يمكن استثمارها وطنيًا لتوجيه المسارات الفردية والمجتمعية، وتقليل نسب الطلاق المقلقة، وخفض معدلات الاستقالة والتسرّب الوظيفي المكلفة، وتحسين عملية اختيار التخصص الجامعي بما يحقق نهضة شاملة ومتكاملة للمجتمع السعودي.
إنني أكتب هنا لا بصفتي باحثة، بل كابنة لهذا الوطن الغالي، تتوق لرؤية إنسان سعودي واعٍ بذاته، يُحسن الاختيار لنفسه ولمجتمعه، ويصنع حياته برؤية واضحة.
لقد شهدت بدايات القرن العشرين ظهور اختبارات الشخصية، لكن يبقى اختبار Myers-Briggs Type Indicator (MBTI) هو الأكثر شهرة وانتشارًا، والذي طورته الأمريكيتان إيزابيل بريجز مايرز ووالدتها كاثرين كوك بريجز في أربعينيات القرن الماضي، استنادًا إلى نظرية العالم النفسي الشهير كارل يونغ. يصنف هذا الاختبار الأفراد إلى ستة عشر نمطًا نفسيًا متميزًا بناءً على أربعة أبعاد رئيسية: الانبساط والانطواء، الحدس والواقعية، التفكير والعاطفة، التنظيم والمرونة. وعلى الرغم من الانتقادات العلمية التي وجهها بعض المختصين لهذا النموذج بشأن قدرته التنبؤية، إلا أنه ظل ولا يزال أحد أكثر الاختبارات استخدامًا على مستوى العالم في مجالات التوظيف والتدريب وتنمية العلاقات الإنسانية.
في المقابل، ظهر لاحقًا نموذج حظي بقبول علمي أوسع في الأوساط الأكاديمية، وهو اختبار السمات الخمس الكبرى (Big Five Personality Traits)، أو ما يُعرف اختصارًا بـ OCEAN. يقيس هذا الاختبار خمس سمات أساسية هي: الانفتاح على التجارب، الضمير الحي، الانبساطية، التوافقية، والعصابية. وقد دعمت آلاف الدراسات العلمية حول العالم هذا النموذج، مؤكدة استقراره النسبي على المدى الطويل، وارتباطه الإحصائي بعدة مؤشرات حيوية مثل الأداء الوظيفي المتميز، والصحة النفسية المستقرة، والنجاح في بناء علاقات اجتماعية متينة، كما يتضح في دراسة McCrae الجزيرة Costa (1997) المنشورة في دورية American Psychologist المرموقة.
تتجلَّى أهمية اختبارات الشخصية في كونها مرآة داخلية موضوعية تكشف جوانب قد تغيب عنا أو عن المحيطين بنا. وقد أثبتت البحوث العلمية الرصينة أن معرفة نمط الشخصية تُساعد بشكل كبير في التنبؤ بكفاءة الفرد في بيئة العمل، وتحديد أسلوبه الأمثل في إدارة الضغوط والصراعات الحتمية، والتعرف على ميوله الدراسية والمهنية الكامنة، وتقييم احتمالية توافقه العاطفي والنفسي مع شريك الحياة المستقبلي. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة قيمة نُشرت في Journal of Research in Personality أن ارتفاع سمة الضمير الحي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق أداء وظيفي متميز في جميع التخصصات المهنية تقريبًا (Sackett الجزيرة Walmsley, 2014).
وتُستخدم اختبارات الشخصية بشكل رسمي أو شبه رسمي في مؤسسات الدول المتقدمة الرائدة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
الولايات المتحدة: تعتمد 88 شركة من أصل 100 في قائمة Fortune 100 على اختبارات شخصية مثل MBTI وHogan في عملياتها المختلفة.
بريطانيا: يُستخدم نموذجاً Big Five وDISC على نطاق واسع في الأجهزة الحكومية ومؤسسات التعليم العالي.
سنغافورة: تُدمج اختبارات الشخصية ضمن برامج الإرشاد الجامعي بهدف تقليل حالات التحويل بين التخصصات وزيادة التوافق بين الطالب ومجال دراسته.
ألمانيا: توظف اختبارات التوافق الشخصي ضمن بعض برامج الزواج والتوجيه الأسري، وتربط بشكل وثيق بين الصحة النفسية وجودة العلاقة الزوجية.
الكنائس الأمريكية: تُجري اختبارات مثل FOCCUS للمقبلين على الزواج، وقد ساهم ذلك بشكل ملحوظ في تقليل نسب الطلاق بنسبة تتراوح بين 10 % إلى 25 %.
وانطلاقًا من هذه التجارب العالمية الناجحة، أقترح إطلاق المملكة العربية السعودية لمشروع وطني شامل ومتكامل لاختبارات الشخصية، تحت مظلة هيئة تقويم التعليم والتدريب أو المركز الوطني للقياس. يقضي هذا المشروع بأن يصبح اختبار الشخصية عنصرًا رسميًا مُدمجًا في الملف الرقمي للمواطن، ويُعرض بسهولة في تطبيقات رقمية مثل «أبشر» أو «توكلنا»، على ألا يكون إلزاميًا أو مُقيّدًا بأي شكل من الأشكال، بل بمثابة هوية نفسية مُساندة على غرار فصيلة الدم أو السجل الصحي المعروف. ويمكن الاستفادة من هذه الهوية النفسية في ثلاث محطات مفصلية في حياة الفرد والمجتمع: الزواج، والتعليم، والتوظيف.
وهنا يجب التأكيد بوضوح أن اختبار الشخصية ليس إلزاميًا على الإطلاق، ولا يُعد شرطًا رسميًا لأي إجراء، بل هو أداة اختيارية مُساندة تُستخدم لمن يرغب في ذلك طواعية، ولا تُفرض بأي حال من الأحوال على الجميع. كما أن نتائج هذه الاختبارات ليست وصمة عار، ولا يجوز استخدامها للحكم على الأفراد أو إقصائهم، بل هي أداة استشارية داعمة تُحترم فيها حرية الفرد وكرامته وسيادته على بياناته الشخصية.
ولضمان نجاح هذا المشروع الوطني الطموح، لا بد من وضع تشريعات داعمة وقوية لحفظ خصوصية البيانات النفسية وسريتها التامة، بحيث لا يتم تداول نتائج الاختبار أو الاطلاع عليها أو استخدامها في أي إجراء إداري أو اجتماعي إلا بموافقة الشخص الصريحة والواعية، وبشكل اختياري وتكميلي لا إجباري، وبما يضمن أعلى معايير الشفافية والثقة والاختيار الطوعي الكامل. كما يجب تضمين أنظمة صارمة تمنع أي محاولات للتحايل على نتائج الاختبارات أو تسريبها بأي شكل من الأشكال.
وكما فرضت الدولة مشكورة الفحص الطبي الإلزامي قبل عقد القِران للوقاية من الأمراض الوراثية التي قد تؤثِّر على مستقبل الأسرة، يمكننا اليوم اتخاذ خطوة موازية ومهمة في مجال الوقاية النفسية. فاختبار التوافق الشخصي قبل الزواج، على غرار اختبار FOCCUS الناجح، أدى في الولايات المتحدة إلى تقليل حالات الطلاق بنسبة ملحوظة، حيث يُظهر للأطراف المقبلة على الزواج مدى توافقهم في الطباع الأساسية، وأساليب التواصل الفعَّالة، وإستراتيجيات إدارة الخلافات.
وقد أظهرت دراسة علمية رصينة نُشرت في Journal of Personality and Social Psychology أن الاختلاف الكبير في السمات الشخصية الأساسية بين الزوجين، لا سيما في سمة العصابية، يُعد من أقوى المؤشرات على احتمالية فشل العلاقة الزوجية على المدى الطويل (Karney الجزيرة Bradbury, 1995). وفي المملكة العربية السعودية، تُظهر الإحصاءات المؤسفة أن غالبية حالات الطلاق تقع خلال السنوات الثلاث الأولى من الزواج، مما يشير بوضوح إلى أن الأزمة الحقيقية تكمن في سوء التوقع وعدم الفهم المتبادل، لا في سوء النيَّة لدى أحد الطرفين. فاختبار الشخصية ليس أداة للرفض أو إصدار الأحكام المسبقة، بل هو نافذة قيمة للفهم العميق: أن يفهم كل طرف»نفسه» أولاً بفخر ووعي، ثم يسعى لفهم «الآخر» بتقبل واحترام قبل الشروع في بناء حياة طويلة ومعقدة دون بصيرة كافية.
ويلاحظ أنه يُقبل مئات الآلاف من الطلاب السعوديين في التخصصات الجامعية المختلفة كل عام دون إجراء تقييم فعلي لأنماطهم النفسية الفريدة، ثم نُفاجأ لاحقًا بأرقام مرتفعة في حالات التحويل بين الكليات أو الرسوب الأكاديمي أو فقدان الشغف تجاه الدراسة. والجامعة ليست مجرد الحصول على شهادة، بل هي طريق مُهم نحو بناء مستقبل مهني وحياة مُرضية. اختبارات معترف بها عالميًا مثل Big Five أو Holland Codes (RIASEC) تُستخدم بفعالية في دول متقدِّمة مثل سنغافورة وكندا لتوجيه الطلاب نحو التخصصات التي تتناسب بشكل أفضل مع أنماطهم الشخصية وميولهم الفطرية. فطالب يتمتع بمستوى عالٍ من الانبساط قد يبدع ويتألق في تخصصات مثل الإعلام أو العلاقات العامة، في حين أن طالبًا يتميز بضمير حي عالٍ قد يجد شغفه ونجاحه في مجالات مثل الطب أو الهندسة أو القانون.
بتطبيق هذه الفكرة، لن تُهدر سنوات ثمينة من عمر الشباب السعودي الواعد أو ميزانيات الدولة المخصصة للتعليم العالي، بل سنضمن منذ البداية توجيه الطلاب نحو المسارات التي من المرجح أن يحققوا فيها النجاح والرضا. وقد أظهرت دراسة قيِّمة نُشرت في Personality and Individual Differences أن توافق شخصية الفرد مع بيئة العمل أو الدراسة يزيد بشكل كبير من مستوى الرضا الوظيفي والإنجاز الأكاديمي (Denissen et al., 2018).
وفي التوظيف يجب تعيين الكفاءات على أساس البصيرة والفهم، ففي أمريكا تستخدم أكثر من 80 % من الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية اختبارات الشخصية كجزء أساسي وحيوي من عملية التوظيف الشاملة. شركات رائدة عالميًا مثل Google وIBM وAmazon تعتمد على أدوات تقييم موثوقة مثل Hogan وDISC وMBTI لاكتشاف وفهم كيفية تفاعل المرشح المحتمل مع فريق العمل، وكيفية استجابته للضغوط المهنية المتوقعة، وما إذا كان أسلوبه القيادي أو التعاوني يتناسب مع ثقافة وبيئة العمل السائدة في الشركة.
وفي المملكة العربية السعودية، نواجه أحيانًا تحديات مثل حالات الاستقالة السريعة للموظفين الجدد، أو وجود توتر داخلي في فرق العمل، أو تراجع ملحوظ في الأداء العام... ولا يعود السبب في الغالب إلى نقص في الكفاءات أو المؤهلات، بل غالبًا ما يكون ناتجًا عن سوء التوافق النفسي بين طبيعة شخصية الفرد ومتطلبات الدور الوظيفي المُسند إليه. فاختبار الشخصية هنا ليس أداة للإقصاء أو التمييز، بل هو وسيلة فعَّالة للتوجيه الحكيم: أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب الذي يُمكِّنه من إطلاق كامل إمكاناته، وأن نبني فرق عمل متوازنة ومتكاملة لا مُتشابهة بشكل نمطي، وبالتالي تقليل الفاقد البشري والمؤسسي الناتج عن قرارات التعيين غير المدروسة.
هذا المشروع الطموح لا يسعى بأي حال من الأحوال إلى التحكم في الأفراد أو تقييد حرياتهم، بل يهدف إلى تعزيز الفهم العميق للذات والآخرين ولا يرمي إلى تصنيف الناس في قوالب جامدة، بل إلى مساعدتهم وتمكينهم من اتخاذ قرارات واثقة ومستنيرة بشأن حياتهم ومستقبلهم. وما نطرحه هنا ليس مجرد فكرة تحليلية عابرة أو مقال رأي تقليدي، بل هو مشروع وطني حقيقي وملموس يُمكن أن يُسهم بفاعلية في خفض نسب الطلاق المؤرِّقة، وتقليل الهدر الأكاديمي المكلف، ورفع كفاءة سوق العمل الحيوي، وتعزيز الصحة النفسية والوعي الذاتي لدى أفراد المجتمع، وتحسين جودة العلاقات الإنسانية داخل الأسرة والمؤسسات على حد سواء.
وحين يمتلك الإنسان هويته النفسية الواضحة إلى جانب هويته الوطنية الراسخة، فإنه لا يخطو بثبات نحو النجاح الشخصي والمهني فحسب، بل يسير أيضًا نحو تحقيق السلام الداخلي المنشود، والنمو المجتمعي المستدام، والنهضة الشاملة التي نتطلع إليها جميعًا. فمن يجهل نفسه وقدراته وميوله، يصعب عليه أن يُحسن اختيار مسار حياته. وهويتنا النفسية.. لا تقل أهمية بحال من الأحوال عن هويتنا الوطنية التي نعتز بها جميعًا.