عبدالوهاب الفايز
ربما هذه هي اللحظة الكبرى التي يستعد لها الشعب الصيني: لن نقبل الإهانة التي شهدها أجدادنا لقرن كامل!
ويبدو أن الصينيين درسوا جيدا تاريخ الاقتصاد السياسي الراسمالي وتقلباته، بالذات في امريكا. في كتابه Peddling Protectionism تسويق الحمائية: قانون سموت - هاولي والكساد الكبير، (2011)، يُعيد الاقتصادي دوغلاس إيروين تحليل واحدة من أكثر السياسات التجارية إثارة للجدل في التاريخ الأميركي، وهي قانون التعرفة الجمركية سموت-هاولي لعام 1930. ورغم أن هذا القانون غالبًا ما يُتّهم بأنه تسبب في الكساد الكبير، فإن إيروين يقدّم رؤية أكثر دقة: لم يكن القانون سببًا مباشراً للكساد، لكنه فاقم آثاره بشكل كبير.
يشير إيروين إلى أن قانون سموت-هاولي لم يكن ردًا على انهيار اقتصادي مفاجئ، بل نتاجًا لصراعات ومصالح سياسية، وضغوط شديدة من جماعات المصالح، خصوصًا من (القطاع الزراعي). النواب مارسوا ما يُعرف بتبادل الأصوات (logrolling)، حيث دعم كل منهم مصالح الآخر لتمرير تعرفة جمركية حمائية شملت مئات المنتجات.
وكما يقول كانت النتائج كارثية. فمع ردود الفعل الانتقامية من الدول الأخرى بفرض رسوم مضادة، تقلّص حجم التجارة العالمية بشكل كبير، واشتدّت الأزمة الاقتصادية، وارتفعت البطالة. ومع ترامب تتجدد الأحداث ليكون العدو الآن الصين!
القيادة المركزية في الصين أدخلت في التربية الوطنية لطلاب المدارس ما يذكرهم بكل الإهانات والحروب التي تعرضت لها الصين من الدول الغربية، بالذات فترة «قرن الإهانة» (من حرب الأفيون الأولى عام 1839 حتى تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949).
هذا يعد محورًا رئيسيًا في التعليم الوطني لتعزيز الوعي التاريخي والوطنية.
في المناهج الدراسية التاريخية تُدرَّس الأحداث الرئيسية مثل حروب الأفيون، معاهدة نانجينغ (1842)، ثورة تايبينغ، حركة الملاكمين، الغزو الياباني (مثل مذبحة نانجينغ 1937)، وغيرها من المعاهدات الجائرة. وتركيز الدروس للطلاب على إبراز عوامل الضعف الداخلي (كفساد أسرة تشينغ) والتوسع الاستعماري الأجنبي، مع ربطها بضرورة «النهضة الصينية». وهناك أنشطة مصممة لزيارة المتاحف والمواقع التاريخية مثل متحف مقاومة الغزو الياباني في بكين، وقاعة ذكرى مذبحة نانجينغ، ومعسكرات الاعتقال التاريخية. وأيضاً هناك أيام الذكرى الوطنية مثل يوم «العار الوطني» (4 مايو) لإحياء ذكرى معاهدة فرساي (1919) التي أطلقت حركة الثقافة الجديدة، ويوم النصر في الحرب ضد اليابان (3 سبتمبر).
هذا الجهد المنظم تبناه الحزب ليكون جزءاً أصيلا في العقيدة الوطنية، فالصين تتعلم من دروس التاريخ الصمود حتى لا تكون مطمعاً سهلا للقوى العالمية الإمبريالية، وتسعى بقوة لتماسك جبهتها الداخلية وعدم اختراقها مهما كان الثمن. لقد تم تطهير الحزب والجيش من الفساد، وتم احتواء الرأسمالية الصينية الجديدة التي عمَّقت مصالحها الخاصة مع الرأسمالية الغربية. وتم تعزيز البناء والتلقين النفسي والفكري للشعب الذي يدور حول ضرورة بناء الأمة الصينية كـ (قضية وجودية)، أوكقضية حياة او موت. وتماسك الجبهة الداخلية ربما هو الذي يدعم الفرضية المطروحة للنقاش حاليا حول مدى استطاعة الشعب الصين لتحمل تبعات ركود اقتصادي عالمي قد تدفع به أمريكا في حربها مع الصين.
مع التنافس على الهيمنة العالمية، يتكهن البعض بأن امريكا قد تلجأ إلى تدابير متطرفة لكبح صعود الصين الاقتصادي. إحدى الفرضيات الجريئة تقترح أن امريكا قد تدفع العالم عمدًا إلى ركود اقتصادي، مستهدفة اضعاف الاقتصاد الصيني المعتمد على التصدير لإبطاء تقدمه، مستلهمة الإنجاز الذي حققته مبادرة الدفاع الاستراتيجي الأمريكية (او حرب النجوم) التي ُصممت لإضعاف الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات، والمبادرة أجبرت موسكو لتحويل مواردها الشحيحة (15-20% من الناتج المحلي) للمنافسة، مما عجل بانهيارها في 1991.
والسؤال المطروح هو: هل يستطيع سكان الصين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة تحمل مثل هذا الصدمة الاقتصادية؟ من خلال فحص مرونة الصين الاقتصادية، وتاريخها في التحفيز الاقتصادي، ومقارنتها باقتصاد الاتحاد السوفيتي، يمكننا تقييم جدوى هذا السيناريو وتأثيره. الفرضية: هل يمكن الدفع بالركود الاقتصادي العالمي كسلاح جيوسياسي؟
المؤكد ان الولايات المتحدة تسعى إلى احتواء الصين، كما هو موضح في استراتيجيتها الأمنية الوطنية لعام 2022، التي تصف الصين بأنها (التحدي الرئيسي). تدابير مثل الرسوم الجمركية، وقيود تصدير أشباه الموصلات، والتحالفات الإقليمية (مثل أوكوس والكواد) تهدف إلى إبطاء صعود الصين التكنولوجي والجيوسياسي. من الناحية النظرية، يمكن أن يعزز الركود العالمي اضعاف الصين نظرًا لاعتمادها على الصادرات التي تقارب 20% من ناتجها المحلي الإجمالي البالغ 18.3 تريليون دولار في 2023. انهيار الطلب العالمي قد يقلص نمو الصين بنسبة 1-2%، مما يفاقم المشاكل المحلية مثل الديون التي تقارب (330% من الناتج المحلي) وأزمة العقارات (مثل انهيار إيفرغراند).
الخبراء يرون أن الصين قادرة على الصمود بعكس الاتحاد السوفيتي، فالصين تعد قوة تجارية عالمية تحتفظ باحتياطيات قدرها 3.2 تريليون دولار واقتصاد متنوع. كما أن الركود سيضر بالولايات المتحدة (ناتج محلي 25.5 تريليون دولار) وحلفاء مثل الاتحاد الأوروبي، مما يجعل اضعاف الصين مقامرة محفوفة بالمخاطر. ومع ذلك، دعونا نفترض هذا السيناريو ونستكشف ما إذا كان شعب الصين يمكنه تحمل التداعيات.
للصين سجل حافل في مواجهة الأزمات الاقتصادية، فالحكومة تبادر إلى برامج تحفيز مالي ضخمة، وهذه تعكس نظرة ثاقبة على قدرتها على تحمل الركود. في الأزمة المالية العالمية عام 2008 انخفاض النمو بحدود 6%، وللتخفيف من الازمه أطلقت الصين حزمة تحفيز للاقتصاد بقيمة (586 مليار دولار، بحدود 13% من الناتج المحلي)، ركزت على البنية التحتية (مثل السكك الحديدية عالية السرعة) والإسكان. كذلك خفض البنك المركزي الصيني أسعار الفائدة وزاد الإقراض، مما أعاد توظيف اكثر من 20 مليون عامل مهاجر. وعاد النمو إلى أكثر من 10% بحلول 2009.وليس بعيد عنا نجاح الصين في احتواء جائحة كورونا في 2020، حيث قدمت الحكومة تريليون دولار، اي بحدود 7% من الناتج المحلي على شكل تخفيضات ضريبية، ودعم للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتدابير للسيولة. أي أعطت الأولوية للاستهلاك.
واستعداداً لمواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية الحالية والطلب الضعيف المتوقع، تبنت تدابير شملت خفض أسعار الفائدة على الرهون العقارية، ودعم سوق الأسهم، وإعانات الاستهلاك (مثل رعاية الأطفال، السياحة). تظهر هذه الجهود قدرة الصين على تعبئة الموارد بسرعة، مستفيدة من احتياطيات بقيمة 3.2 تريليون دولار وبنوك خاضعة للدولة. في حالة الركود، يمكنها نشر حزمة مماثلة لحماية الوظائف والاستهلاك.
هل يستطيع شعب الصين تحمل الألم الاقتصادي؟
سيؤثر الركود الناجم عن الولايات المتحدة على قطاع التصدير في الصين، مما قد يقلل النمو إلى 3-4% ويزيد البطالة المقدرة بنسبة (15% للشباب في 2023). مصدر الخطر قد يكون في بطالة الطبقة الوسطى الحضرية التي تبلغ 400 مليون بمتوسط دخل بين 10 و 30 ألف دولار، فهناك احتمال فقدان الوظائف في التكنولوجيا والتصنيع. ايضا العقارات، التي تمثل 70% من دخل الأسر، قد تفقد قيمتها، مما يؤثر على المدخرات، كما رأينا في انخفاض المبيعات بنسبة 5.3% في 2024.
سكان الارياف وعددهم 560 مليون نسمة، بمتوسط دخل يقارب 2,000 دولار سنويًا، هؤلاء اعتمادهم قليل على التجارة العالمية، لكنهم سوف يعانون مع التحويلات التي تصلهم من العاملين في المدن. سيواجهون صعوبات غير مباشرة لكنهم يتمتعون بمرونة ذاتية، على عكس مواطني الاتحاد السوفيتي الذين عانوا من نقص مزمن.
والتحمل في المدى القصير اي من عام الى عامين، من المرجح أن يتحمل شعب الصين الركود مستفيدا من برامج التحفيز، كما في 2008 و2020، للمحافظة على الوظائف ودعم الاستهلاك. توفر الاحتياطيات وشبكات التجارة (مثل 911 مليار دولار مع آسيان) حاجزًا، متفوقة بكثير على احتياطيات الاتحاد السوفيتي (20 مليار دولار في 1991). مرونة الحياة الريفية وقوة الدولة سوف تحد من الاضطرابات.
أما الركود الاقتصادي طويل الأمد، أي أكثر من 3 سنوات، فستكون أول تأثيراته السلبية في استمرار ارتفاع البطالة واستمرار خسائر العقارات، وهذه قد تؤثر على ثقة الطبقة الوسطى في (الحلم الصيني)، مع تراجع النمو دون 3%. ومع ذلك، فإن سيطرة الحزب تجعل انهيارًا على الطراز السوفيتي غير مرجح.
لذا يقدم انهيار الاتحاد السوفيتي تناقضًا كبيراً. بحلول 1991، كان اقتصاده راكدًا (نمو 0%)، معتمدًا على النفط، ويفتقر إلى الاحتياطيات. عانى المواطنون من نقص وفقدوا الإيمان بالشيوعية، مما أثار الاضطرابات.
اقتصاد الصين البالغ 18.3 تريليون دولار، والمتكامل مع التجاري العالمية، وباحتياطيات 3.2 تريليون دولار، هذه توفر مرونة أكبر بكثير. ايضا انهيار الدولة السوفيتية يعزى للفشل العقائدي الذي عجل بالفشل الاقتصادي. حكم الحزب الشيوعي الصيني البراغماتي وأدوات السيطرة يضمنان الاستقرار، حتى في الأزمات.
ثمة أمر مهم. حتى لو اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية إضعاف الصين، فمن المرجح أن ترتد عليها. الاقتصاد الصيني يعتمد على الصادرات المتنوعة، والاستهلاك المحلي الذي يصل إلى 50% من الناتج المحلي، كما أن قدرة الحكومة على التحفيز سوف تخفف من تأثيرات الركود. وفيما يخص المخاطر الجيوسياسية، فالمتوقع - مع ارتفاع المشاعر - ان يؤدي الألم الاقتصادي إلى تأجيج القومية الصينية، والهدف السريع قد يكون المطالبة الشعبيّة باستعادة تايوان، وهذا سوف يهز المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة في المحيط الهادئ.
باختصار، المتوقع تحمُّل الشعب الصيني ركوداً قصير الأمد، وهذه القناعة ربما تساعد الدول التي سوف تفاوض أمريكا على مبدأ: (مع أمريكا أو مع الصين). فالحمائية التجارية المستجيبة لأهداف قصيرة وسياسات شعبوية لن تصمد مع حقائق الأمر الواقع.