د. سفران بن سفر المقاطي
ورد الطائف، هذه الزهرة العطرية ذات الحضور الأخاذ، تتجاوز في رمزيتها حدود الجمال الطبيعي لتغدو تعبيرًا صادقًا عن تفاعل الإنسان مع البيئة، وعن قدرة المجتمعات على تحويل الموارد البسيطة إلى مصادر فخر وطني واقتصادي.
في مدينة الطائف الواقعة على المرتفعات الجنوبية الغربية من المملكة العربية السعودية، تتجلى قصة هذه الزهرة كأحد أبرز الأمثلة على التماهي بين التراث والابتكار، حيث تنبثق من عمق التاريخ لتؤسس لصناعة عطرية ذات وقع عالمي.
تعود أصول زراعة ورد الطائف، المعروف علميًا باسم Rosa Damascena Mill، إلى نحو ثلاثة قرون، حين جُلبت بذوره من بلاد الشام أو فارس، وتكيّفت مع المناخ الجبلي الفريد للمنطقة، الذي يتميز ببرودته النسبية وتربته الخصبة، ما أتاح للوردة أن تتطور بجودة استثنائية جعلتها محط أنظار كبريات دور العطور العالمية.
تُظهر الوردة الطائفية خصائص فريدة من حيث الحجم والرائحة، حيث تمتاز بصغر حجمها مقارنةً بالورد الدمشقي الأصلي، غير أن رائحتها أكثر تركيزًا وثراءً بالزيوت الطيارة، ما يجعلها مثالية لاستخلاص العطور الفاخرة. ويبدأ موسم القطف في نهاية مارس ويستمر حتى أوائل أبريل، حيث تُقطف ملايين الأزهار يدويًا قبل شروق الشمس، وهي ممارسة دقيقة تهدف إلى الحفاظ على الزيوت العطرية في أعلى درجات نقائها، في مشهد يتكرر كل عام ليؤكد على العلاقة العضوية بين الإنسان والطبيعة في هذه الصناعة. وتستغرق عملية إنتاج دهن الورد مراحل معقدة تتطلب ما بين 10,000 إلى 13,000 زهرة لإنتاج تولة واحدة فقط (ما يعادل 11,7 غرامًا) من الزيت النقي، وهو ما يعكس قيمة المنتج من حيث الجهد والتكلفة والدقة.
وفي مشاغل التقطير التقليدية، التي تطورت تدريجيًا لتدمج بين الأساليب القديمة والتقنيات الحديثة، يُستخدم النحاس في القدور لتوزيع الحرارة بشكل متوازن، فيما تُراقب العمليات بعناية فائقة تضمن استخلاص الزيت بطريقة تضمن الجودة والثبات. هذا التوازن بين التقليد والابتكار لم يكن مجرد خيار تقني، بل هو ضرورة استراتيجية للحفاظ على هوية المنتج وتميّزه، في ظل سوق عالمي يعتمد بشكل متزايد على النقاء والأصالة في المنتجات الفاخرة. وقد دفعت هذه العوامل علامات تجارية رائدة مثل Dior وChanel إلى إدراج دهن ورد الطائف ضمن مكونات بعض من أشهر عطورها، ما منح الوردة السعودية موقعًا استثنائيًا في صناعة العطور العالمية.
اقتصاديًا، تمثّل صناعة ورد الطائف مصدر دخل حيوي لمئات العائلات في المنطقة، حيث توفر فرص عمل تمتد من الزراعة إلى التقطير والتعبئة والتسويق. وقد ساهم الدعم الحكومي، من خلال برامج تدريبية وتقنيات زراعية حديثة، في تحسين الإنتاجية وزيادة القدرة التنافسية للمنتج السعودي. كما تعزز الفعاليات الثقافية، وعلى رأسها مهرجان ورد الطائف السنوي، من حضور هذه الصناعة في الوعي المحلي والعالمي، حيث تُعرض المنتجات وتُروى القصص المرتبطة بزراعتها وتقطيرها، ما يرسّخ من بعدها الثقافي ويعزز من مكانتها كسفير عطر للمملكة. وهنا تبرز نقطة محورية تتعلق بكيفية تحويل منتج طبيعي إلى رمز وطني، ليس فقط من خلال جودة الإنتاج، بل عبر صياغة سردية ثقافية ذكية تجعل من كل زهرة قصة يمكن أن تُروى في محافل دولية.
الجانب اللافت في تطوّر هذه الصناعة هو دخولها المتزايد في مسارات التنمية المستدامة، حيث تسعى المملكة إلى تبني سياسات زراعية تراعي التوازن البيئي، في ظل التحديات المناخية والضغوط البيئية المتنامية. كما بدأت مبادرات بحثية تهدف إلى استكشاف استخدامات طبية وتجميلية جديدة للزيت الطائفي، ما يفتح آفاقًا اقتصادية وعلمية غير مسبوقة. إن التفكير غير التقليدي هنا يتمثل في تجاوز الرؤية التقليدية التي تحصر الورد في بعده العطري، إلى رؤيته كمكون طبيعي متعدد الاستخدامات، يمكن أن يسهم في قطاعات متنوعة مثل العلاج العطري والصناعات الدوائية والتجميلية، بل وحتى في السياحة الزراعية. وعلى المستوى التاريخي، فإن ورد الطائف ليس غريبًا عن الذاكرة الدينية والثقافية للمنطقة، إذ يُستخدم ماء الورد المستخلص منه في غسل الكعبة المشرفة، وهي ممارسة تضفي على الوردة بُعدًا رمزيًا وروحيًا يعزز من مكانتها في الوعي الجمعي.
مع مرور الزمن، تحوّلت هذه الزهرة من مجرد مكوّن طبيعي إلى رمز يحمل في طياته معاني الانتماء والفخر الوطني، ما جعلها أحد أبرز ملامح الهوية السعودية الحديثة. وقد ساعد ارتفاع أسعار منتجاتها، نتيجة ندرتها وجودتها، في تعزيز مكانتها كمصدر اقتصادي مهم، لا سيما في ظل تنامي الطلب العالمي على المنتجات الطبيعية الأصيلة.
الرؤية المستقبلية لصناعة الورد الطائفي تتطلب استثمارات ذكية في التكنولوجيا والتسويق الرقمي، حيث يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تلعب دورًا محوريًا في الترويج للمنتج على نطاق عالمي، خاصة إذا ما ارتبطت الحملة التسويقية بسردية ثقافية تعكس القيم السعودية. كما أن المشاركة المكثفة في المعارض الدولية، مثل معرض باريس للعطور، يمكن أن توفر منصات استراتيجية للمنتج السعودي ليثبت حضوره في سوق تنافسية تحتكم إلى معايير صارمة في الجودة والابتكار. ومن المهم في هذا السياق تطوير مراكز بحثية متخصصة تقوم على دراسة سلوك النبات واستخلاص زيوته بطرق علمية، وإجراء تجارب لاستكشاف تطبيقات جديدة، وهو ما سيسهم في إضفاء طابع علمي على هذه الصناعة، ويعزز من مكانتها الاقتصادية والعالمية.
إن جوهر القصة لا يكمن فقط في نجاح ورد الطائف كمنتج، بل في الطريقة التي استطاعت بها المملكة أن تدمج بين أصالة الموروث وحداثة المنهج، في نموذج تنموي يجمع بين الإنسان والطبيعة، بين التراث والاقتصاد، وبين المحلي والعالمي. هذا الانسجام العميق هو ما جعل من ورد الطائف أكثر من مجرد زهرة؛ لقد بات تجسيدًا حيًا لقيم الإبداع والاستدامة والهوية، وهو ما يفرض على صناع القرار والمستثمرين والمزارعين معًا مسؤولية الحفاظ على هذا الكنز الوطني وتطويره عبر الأجيال.
وفي الختام، فإن ورد الطائف ليس مجرد رواية عطرية تُروى، بل هو وثيقة حية تختزن في عبيرها قصة وطن يكتب تاريخه من خلال ترابه، وزهوره، وأحلام أبنائه. وبين ما تحمله بتلاته من عطر، وما تعبّر عنه جذوره من انتماء، تتجسد فلسفة تنموية فريدة ترى في كل زهرة فرصة، وفي كل قطرة زيت مشروعًا، وفي كل موسم قطف وعدًا جديدًا بالتميز والريادة.