منصور ماجد الذيابي
للتعريف بمفهوم «الفزعة» في الموروث الثقافي العربي بشكل عام يمكن أن نقول بأن هذا المصطلح وفقا لمعاجم اللغة يعني تقديم العون والتضامن فيما يتعلق بإنقاذ طالب الفزعة إذا ما تورّط في مشكلة اجتماعية أو ضائقة مالية، أو تقديم المساعدة فيما يتعلق بتحقيق منفعة ما لا يمكن لطالب الفزعة تحقيقها بمفرده ودون تدخل عنصر خارجي بما يملكه هذا العنصر من نفوذ أو قوة ردع أو مقدرة مالية، أو مكانة اجتماعية تلبي نداء طالب الفزعة بما لا ينعكس سلبا على استحقاقات الآخرين في المجتمع الذي يعيش فيه طالب الفزعة، أي أن الفزعة تشبه في يومنا هذا عملية الاتصال هاتفيا بالدفاع المدني لإطفاء النيران المشتعلة او الاتصال بفريق الاسعاف لكي يتولى مهمة انقاذ مريض ونقله لقسم الطوارئ في مركز طبي.
غير أن مفهوم الفزعة في يومنا هذا قد توسعت دلالته اللغوية لتشمل معاني أخرى مختلفة من حيث أن بعض طالبي الفزعة يريدون تحقيق ما يسعون اليه حتى على حساب استحقاقات المنافسين لهم، ذلك أن كلمة «فزعة» اشتملت اليوم على مفاهيم اجتماعية معاصرة في اللهجات والثقافات العربية المحلية مثل «واسطة»، و»فيتامين واو»، و»فيتامين سي» وغير ذلك من مفاهيم لغوية تشير إلى تحقيق أهداف طالبي الفزعة بمساعدة أطراف أخرى أو الوصول إلى مبتغاهم عبر الصعود على اكتاف الآخرين.
كانت ظاهرة «الفزعة» قد برزت تقريبا في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الحادي عشر الهجري واستمرت لمئات السنين ثم تلاشت واختفت تقريبا خلال القرن المنصرم، ولم يعد لها في عالم اليوم أي قيمة اجتماعية بعد سن القوانين المنظمة لحياة الناس، وبعد فرض اجراءات تنظيمية معينة للحد من تغلغل مفهوم الفزعة في النظم المتعلقة بنزاهة الاستحقاق في المنافسات والمسابقات المعدة مسبقا في مجالات كثيرة من بينها العمل والتعليم وغير ذلك من المجالات المختلفة الأخرى.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان اختفاء ثقافة «الدخيل» في المجتمع العربي، فإن ثقافة «الفزعة» تكاد أيضا أن تختفي اليوم في ظل القوانين الجديدة المعاصرة لكنها لم تتبدّد تماماً من المشهد الثقافي العربي إذ لا يزال البعض يرتكز ويعتمد في منافساته مع الآخرين على هذه الفزعات أو الفيتامينات التي تجعل طالب الفزعة يحقق أهدافه أو يكون قريبا من تحقيقها بمجرد حصوله على هذه الفيتامينات الفزعوية وتقديمها له على طبق من ذهب أو طبق من فضة. في تقديري، أن الفزعة تكتسب قيمة مجتمعية إيجابية عندما يكون طالبها في أمس الحاجة لدعم ومساندة عناصر أخرى في المنظومة الاجتماعية شريطة أن لا يكون هذا الدعم على حساب أطراف أخرى أكثر استحقاقا منه وتأهيلا بمعنى أنه ينبغي للإنسان أن يفزع بما تجود به نفسه لذوي الحاجات والمعسرين والمنكوبين، امتثالا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}ِ وذلك لما للتعاون على البر والتقوى من الضرورة والأهمية في المجتمع الإنساني.
أما عندما تكون الفزعة من أجل نصرة الفرد ومساعدته على حساب حقوق أو مستحقات أفراد آخرين، فحينئذ يدخل مفهوم الفزعة في معنى النهي المنصوص عليه في الآية الكريمة: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
والآن وبعد توضيح المعنى الأساسي لمصطلح الفزعة وما يتفرع عن هذا المعنى من دلالات اجتماعية اخرى، فان ثقافة الفزعة، وإن اختفت معانيها الأساسية عبر الأزمنة مثلما قرأنا وسمعنا عن عمليات الإمداد في الحروب والتحالفات القبلية أثناء حقبة المعارك والغارات والثورات والغزوات والغارات والمناوشات، إلا أنها لا تزال تلقي بظلالها الوارفة على حياة المجتمعات العربية الحديثة لاسيما المعاني المتعلقة بمد يد العون والمساعدة للفقراء والمحتاجين والمنكوبين مع انحسار ملحوظ في المعاني المتعلقة بتلبية نداء استغاثة أو فزعة ما على حساب استحقاقات اطراف أخرى اذا ما تعلق الأمر بالتنافس على مسابقات وظيفية أو رياضية أو ثقافية أو بالتسجيل في مؤسسات تعليمية ومهنية مختلفة، أو حتى أثناء الوقوف في طوابير الانتظار أمام المخابز والمقاهي.
أما على مستوى الدول اليوم فأعتقد أن الفزعة لا زالت هي الخيار المتاح والبديل الجاهز في حال نشوب حرب بين دولتين لا تستطيع إحداهما مواصلة الحرب بعد تكبدها خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وإن تغير مصطلح الفزعة إلى مصطلحات عسكرية معاصرة مثل «تحالف»، و»دعم لوجستي»، و»إمدادات» أو «مساعدات» كما حدث ويحدث اليوم من دعم دول حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا في حربها مع روسيا الاتحادية، وكذلك مثلما قامت به أمريكا من تقديم المعونات العسكرية لإسرائيل في حربها التي لا زالت مستمرة حتى اليوم على قطاع غزة المحاصر.
فكل دلالات الدعم والمساندة في هذا العصر تتضمن نفس معاني الفزعة ثقافيا عند العرب في العصور الماضية، وإن اختلفت مبرّرات الفزعة ودوافع الهبّة من حقبة زمنية إلى أخرى ومن جيل إلى جيل، في حين تغير مفهوم الفزعة في المجتمع المدني الحديث إلى مصطلحات أخرى حديثة مثل مساعدات إغاثية أو مساعدات إنسانية.
من كل ما سبق، أرى أن لثقافة الفزعة جوانب ايجابية وجوانب أخرى سلبية إذا ما تم تطبيق مفهوم الفزعة على حساب حقوق الآخرين، أو جاءت للتعدي على ممتلكات البشر وسلب مكتسباتهم ونهب ثرواتهم واحتلال أراضيهم.
وفي هذا السياق يتجلى المعنى السلبي لمفهوم الفزعة وأما ما يتعلق بتطبيق الفزعة لخدمة قضايا الأمة ونصرة المستغيثين والمظلومين والمنكوبين والمحتاجين، فإن للفزعة حينئذ تأثيرا إيجابيا في نفوس وقلوب المحتاجين لثقافة الفزعة العربية الراسخة والمتجذرة في أعماق التاريخ.