عبدالرؤوف توتي بن حمزة
تحوّلت الأفلام اليوم من وسيلة للترفيه إلى قوة مؤثرة تُشكل الأفكار والقيم حيث تُحدّد معايير الجمال والسلوك والطموحات في حياتنا اليومية. ولم تعد الأفلام اليوم قصصا تُعرض على الشاشة فقط، بل يمتد مدى تأثيرها إلى رسائل تؤدي إلى عقولنا، مما تتسلل إلى وجداننا بدون استئذان، فتُلهِم أحيانًا، وتُضلل أحيانًا أخرى. والشباب باندفاعهم وشغفهم بكل ما هو جديد، هم الأكثر تأثرًا بسحر هذه الشاشة، فهم يقفون اليوم بين إبداع يُثري وعيهم، ووهمٍ قد يعبث برؤاهم، فكيف غدت الأفلام قوةً تُلهم وتُغوي، وآلةً تُبني وتهدم في آن واحد؟
ولا أحد ينكر أن السينما تحمل في طياتها قدرة هائلة على الإلهام والتثقيف، إذ تنقل قصص الكفاح والصمود، وتبرز قضايا المجتمع كما تُظهر الجوانب الإنسانية للحياة. غير أن الوجه الآخر لهذا الفن لا يقل خطورة عن تأثيره الإيجابي، فقد تحوّلت بعض الأفلام إلى أدوات تُغرِق العقول في الوهم، وتبني أحلامًا زائفة، فتُقدّم الحياة كحكاية مثالية، حيث تتحقق الأحلام بلا عناء، وتُرسم العلاقات بمعايير خيالية، وتُطرح القيم بأسلوب يعبث بالوعي.
الشباب، بطبيعتهم المتحمسة والمندفعة نحو الأشياء، هم أكثر الفئات تأثرًا بسحر هذا الفن، حيث يتماهى بعضهم مع الشخصيات اللامعة المتمثلة فيها، فيقلّدون أبطالها في مظاهرهم وأشكالهم، وربما في سلوكياتهم وقراراتهم المصيرية أيضا. ومع انتشار وسائل البث الحديثة، أصبح الوصول إلى الأفلام أكثر سهولة من أي وقت مضى، مما جعل تأثيرها أكثر تغلغلًا في تفاصيل الحياة اليومية. غير أن المعضلة الكبرى تكمن في أن الكثير من هذه الأفلام لا تنقل واقعًا يمكن أن يكون نموذجًا يُحتذى، بل تبني صورة مشوّهة للحياة، كما تُرسّخ معايير جمالية زائفة، وتُمجّد «العنف» كوسيلة لحل المشكلات، وتُظهر السلوكيات المتهورة وكأنها رمز للتحرر والجرأة.
لقد أصبح من المألوف أن نرى الشباب غارقين في عالم السينما والأفلام، حتى صار بعضهم يعيش على هامش الواقع، يستمد تصوّراته عن الحياة من مشاهد خيالية، فينخدع ببريقها ولمعتها، ويضع نفسه في مقارنات غير منطقية مع شخصيات مصطنعة. وهذا الانجذاب المفرط منهم قد يدفع البعض إلى الوقوع في الفخ غير الواعي، فيُهدرون أوقاتهم في متابعة أفلام لا تُضيف إلى وعيهم شيئًا، بل تُبعدهم عن الإنتاجية والإبداعية، كما تُشتّت تركيزهم عن مسؤولياتهم الحقيقية في الحياة.
ولا يقتصر تأثير السينما على إغراق العقول في الأحلام الواهية فقط، بل يتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك، حين تُسهم بعض الأفلام في تكريس الصور النمطية والتحيزات الاجتماعية، فتُرسّخ مفاهيم خاطئة عن الشعوب والثقافات، وتُقدّم شخصيات نمطية تفتقر إلى العمق، مما يُغذّي الانقسامات ويُضعف قدرة الأفراد على تقبّل التنوع.
كما أن بعض الأفلام تُظهر القيم الأخلاقية وكأنها أمور ثانوية، فتُقلّل من شأن الصدق والنزاهة، وتُمجّد الاحتيال والخداع تحت ستار الذكاء والدهاء، مما قد يؤثر على منظومة الأخلاق لدى الشباب، فيجعلهم أكثر استعدادًا لتبرير السلوكيات الخاطئة إلى حد ما.
إن تأثير الأفلام على الشباب أصبح قضية تستوجب التفكير العميق في سُبل التعامل معها. فمما لا ينكر أن هذا الفن يحمل بين طياته إمكانيات هائلة للإصلاح والبناء، لكنه في الوقت ذاته قادر على الهدم والتضليل. فالأفلام اليوم تعمل بمثابة السيف ذي الحدين، تمتلكها قدرةً على الإلهام والتوجيه، لكنها في الوقت ذاته قد تزرع الوهم وتُعيد تشكيل الوعي بطرق غير محسوبة وغير مناسبة.
بينما تملك الأفلام قوة التأثير والانجذاب، يبقى «الوعي النقدي» هو الحصن الوحيد الذي يحمي الشباب من التقليد والانقياد الأعمى خلف الصور الخادعة والقيم المشوّهة. فالمسؤولية الواعية والواعدة لا تقع على صناع الأفلام فقط ، بل تمتد إلى الأسرة والمجتمع والمؤسسات التعليمية، لضمان أن يبقى هذا الفن كوسيلة للإثراء لا للإلهاء، وكنافذة على معرفة العالم لا بابًا إلى الضياع.
ومن المستحسن أن ندرك أن هذه الأفلام ليست هي التي تصنع جيلنا، بل وعي جيلنا هو الذي يحدد كيف يتعامل معها.. فإما أن تكون له مرآة يرى فيها الحقيقة، أو أن تتحول إلى سراب يسلبه إدراكه لواقعه..
وللحديث بقية..!
** **
- كاتب من الهند