د. محمد بن إبراهيم الملحم
أولاً أعتذر لقرائي الكرام عن الخطأ المطبعي في الحلقة الثالثة من هذه مقالة، حيث حملت رقم 2 بدلاً من 3، وثانياً أستكمل معكم الحديث عن المسلسل ومدى صدق تصويره للحالة الاجتماعية، فهناك عدم اتساق مع الواقع في عدد من الوقائع ولا بد من الإشارة أولاً إلى أن مثل هذه الأمور ينبغي أن يكون المشهد فيها مبنياً على السائد وليس على حالات قليلة أو نادرة حتى لا يحدث تنافر بين ما يقدمه المسلسل والحقائق التاريخية الثابتة والمشتهرة عند أغلب الناس. فنشاهد مثلاً عزيزة تكنس صحن البيت والذي هو من الأسمنت باستخدام المكنسة المصنوعة من الجريد، ينما هذه المكنسة انتهى عصرها وظهرت المكانس العادية التي نعرفها اليوم، كما أن وضحى البدوية تبيع البيض، وهو ليس من صنعة البدو، وأم جزاع تؤجر المباسط على بقية البائعات وهو أمر غريب لم نعهده في الأسواق! كما تختبئ عطوة في حمام خاص بالنساء وهو ما لم نألفه في الأسواق آنذاك أيضاً فما هذه الحمامات! وتفتح وضحى البدوية وجهها عند النساء وهو خلاف المعهود، فالمرأة البدوية تبقى ببرقعها حتى بين النساء وترى أنه يعيبها فتح وجهها عندهن، ونحن لا نتكلم عن بدوية اعتادت العيش في المدينة وإنما قادمة من الصحراء حديثاً.
عيادة الطبيب هي جزء من ما سُمي «الصحية» وهي عادة مركز صحي حكومي، حيث تجلس الممرضة مع الطبيب في غرفة صغيرة بها سرير وطاولة حديد، بينما تظهر لنا عيادة الطبيب بنفس نسق عيادات الأطباء الخاصة، فتوجد ممرضة سكرتيرة بغرفة منفصلة وغرفة الطبيب مجهزة بأثاث وتجهيزات كأنها عيادة خاصة. كما شاهدنا عند ولادة الجازي طبيبة سعودية تعطيها التعليمات وهو أيضاً أمر محل تساؤل، حيث نعلم أنه لم يكن هناك أطباء سعوديون رجال إلا قليل جداً فما بالك بوجود طبيبات سعوديات! وإن وجد فليس بالأمر الشائع المعهود والذي تبنى عليه قصة تصور ذلك الوقت، ويأتينا أيضاً طبيب سعودي لإعطاء تقرير عن حالة أم جزاع الميؤوس منها! ودكتورة سعودية عالجت عطوة من التسمم والدكتورة سارة زميلة أخت زميلة عزيزة ثم ذلك الدكتور الذي خرج من غرفة العمليات مطمئناً أن فواز بخير، كل هؤلاء كانوا سعوديين! وفي فترة السبعينات هو أمر غير شائع، وإن وجد بعض الأطباء السعوديين فلا تتوقّع أنهم يقومون بهذه المهام المتقدمة من إجراء عمليات وإنقاذ أرواح وما إلى ذلك.
وشاهدنا الطبيب المصري يقود سيارة كريسيدا وهو أمر أمر بعيد كثيراً عن الواقع الشائع للمصريين في السبعينات والذين كانت غالب سياراتهم إما بيجو أو فيات أو فولكس وربما فولفو، كما تظهر أسماء الناجحين في الجريدة في زاوية صغيرة لعدد قليل جداً لينقلنا ذلك إلى فترة الستينات ربما والتي كان فيها عدد الطلاب قليلاً جداً بينما في فترة السبعينات كانت أسماء الناجحين تملأ صفحة كاملة وربما صفحتين! وقد قدم لنا مشهد زواج العائلة الفلسطينية وهم بالملابس التقليدية الفلسطينية بينما كان أفراد هذه الجالية يكتفون بلبس البنطال والنساء الملابس العادية وليست لديهم هذه المبالغات في اللبس التقليدي لذلك أتوقّع أن الفلسطينيين أنفسهم يستغربون من هذا المشهد. وشاهدنا الطبيب يطلب تلفون من محل القهوة ليكلم بيت عزيزة وهذه الصورة موجودة في الأفلام المصرية وليس بالرياض، بل المقاهي ليس بها تلفونات! رأينا الوالد والأم والابن فواز وابنتهم عزيزة في توديع ابنتهم عواطف أو في استقبالها في الشارع وهذا غريب جداً ولا يحدث، وإنما يستقبل الناس من يأتي من سفر أو يذهب داخل المنزل ويكون ذلك في أول ممر بعد البوابة الخارجية للمنزل (الدهليز)! أم إبراهيم بعد أن تغلق الراديو على أغنية محمد عبده يقول لها أبو إبراهيم مستهجناً تسكرين على محمد عبده؟ ترد عليه نبي نسمع سواليفك يا قلبي والشاهد هنا قولها «يا قلبي» فجيل أمهات ذلك الوقت لا يستخدمن هذه التعبيرات لأزواجهن، ولو استخدمنها فلا يكون أمام الأولاد. وترد تعبيرات حديثة مثل: «حياكم»، «دافور»، و»السلام عليكم» في التلفون بدلاً من «ألو»، كما أن أبا إبراهيم وأم إبراهيم يقولان لابنتهما عواطف وزوجها راشد في جلسة صلح «الله يهدّي سركم» وهو تعبير مصري كما نعلم! وتقول وضحى لابنتها اذهبي ابحثي عن فراطة للعشرة ريالات تقصد «فكه».
وينتقم راشد الرجل الكبير من فواز الولد الصغير بعد أن رماه الأخير بالحصى بطعنه بسكين من الخلف ثم الفرار.. سيناريو فاشل تماماً، فاستخدام السكين لا يكون إلا من الأضعف ضد الأقوى بدنيا وليس العكس، وطالما أن المسلسل رسم لنا راشداً هذا شخصاً شريراً، بل إنه يحمل معه سكين مضاربات فلا بد أنه كان قادراً على الرد على ضرب فواز له بالحجارة لأول وهلة وإيقافه عند حده وتأديبه لا أن ينبطح له ليوسعه فواز ركلا ثم يترصد له لاحقاً ليطعنه وينتقم منه! كأننا نشاهد سيناريو مصارعة حرة أمريكية مدفوعة الثمن.. كما حدث تقدم هائل في ميزانية المرأة البدوية وضحى لا يمكن أن تصنعه «بسطة» بحيث مكنها من: استئجار بيت كبير، ثم شراء محل تسجيلات، ثم شراء سيارة، في فترة وجيزة، ولا شك أن البسطة وقوة الشراء تلك الأيام ليست كما هي اليوم فهي قوة شراء ضعيفة وأسعار البسطة منخفضة جداً. ومن يقرأ في سيرة حركة جهيمان وما كتب عنها يفهم أنها لم تكن حركة قامت على تدريب مسبق لأفرادها في صحراء السعودية كما صوّرها المسلسل، فهذا ربما يصح أن ينطبق على المتطرفين المنتمين لحركة القاعدة والذين ظهروا لاحقاً بعد عشرين سنة من فترة المسلسل، أما جهيمان فهو بدوي متطرف جمع حوله من آمنوا بفكرته وأعطاهم السلاح وربما درب بعضهم عليه تدريباً أولياً لا يرتقي إلى مستوى ما صوره المسلسل أبدا، ثم ذهب في مغامرة فاشلة لاقتحام الحرم ولذلك كان القضاء عليه هو ومجموعته سهلاً جداً ولم يستغرق وقتاً طويلاً أبدا ولله الحمد. وللحديث بقية حول قصة ورسائل هذا المسلسل «الأعشى».
** **
- مدير عام تعليم سابقاً