منصور بن عبدالله الغفيلي
لم يكن يوم الأربعاء الموافق للثامن عشر من شهر شوال من هذا العام 1446 بالنسبة لي يوما كغيره من الأيام، فقد فقدت فيه شقيق الروح وبلسم الجروح، وغربت شمسه بتغييب رمسه، فرحم الله الأخ الغالي الكبير والقدوة الأقدر على التأثير؛ أبا ياسر معالي الشيخ محمد بن علي الفايز صحبته فيها أكثر من نصف قرن مستشاراً ومشرفاً عاماً على مكتبه، منذ كان وكيلاً لوزارة العمل ثم محافظاً للمؤسسة العامة للتأمينات ثم وزيراً للعمل ثم رئيساً لديوان الخدمة المدنية ثم وزيراً لها، وقد شملت تلك الصحبة الطويلة الحياة الوظيفية والاجتماعية، وامتدت الصلة حتى بعد التقاعد ولم تنته بوفاته -رحمه الله-، فالوفاء ليس مؤقتاً، ولا ينتهي حتى تخرج أنفاس صاحبه، وهو من الدروس التي تعلمناها من الفقيد -رحمه الله- فلقد صحبت في تلك المدة الطويلة رجلاً، بل جامعة تتنوع فيها المعارف والخبرات العملية، وهو مع كل تلك المناصب لا يعجبه أن يُكتب عنه أو تسلط عليه الأضواء، فلقد كانت في يده ولم تكن في قلبه؛ لذا فهو لا يلقي لها بالاً، ولا يهتم بالمديح والثناء بل يضايقه ذلك جداً، ولما حاولت جمع مواقفه في كتاب يخلدها لأبناء الجيل رفض ذلك بشدة بحجة أن ما يقوم به لله تعالى فقط، ويؤمن أن ما عند الله خير وأبقى، والله سبحانه يعلم ذلك ويجازي عليه، ولا يعنيه علم الآخرين؛ لذا كان بعيداً عن الصحافة ولإعلام والتصريحات النظرية، بل يترجم ذلك بالعمل الصادق الجاد النافع لوطنه، وفقا لتوجيهات ولاة الأمر ابتداءً بالملك فهد ثم الملك عبدالله -رحمهما الله- ثم انتهاء بالملك سلمان -حفظه الله- حيث حظي بثقتهم وتقديرهم، فقد كان يعمل بصمت وجهد دؤوب لا يكل ولا يمل، مما كان له الأثر على صحته، لكنه يمضي رغم ذلك في مسؤولياته الجسام بإخلاص وبإتقان عجيب يعجز عنه من حوله، ولا أذكر خلال هذه المدة الطويلة -مع ما لديه من صلاحيات- أنه حاول تجاوز النظام أو الالتفاف عليه، بل كان يحثنا دومًا على الالتزام بالأنظمة مع كل أحد، بل ويمثل هو ذلك السلوك مع الخاصة والعامة بشكل واضح حتى أنه في حالات كثيرة يعتذر عن أقاربه وأصدقائه بلا تردد لأجل النظام ولا شيء غير النظام، وهذا يعكس جزءًا من شخصية اعتادت على الانضباط في التعامل وفق الأنظمة، والالتزام بها في الدوام والعمل، وهو مع هذا يحب الشفاعة لمن يطلبها، ويبذل الخير للمستحق ما لم يتضرر بذلك غيره- كما أنه مهما كنت مختلفًا معه فلا يؤثر ذلكعلى العمل ولا يتأثر بذلك التعامل، ولا يمكن أن يظلمك بسبب ذلك. لقد كانت شخصيته -رحمه الله- متوازنة جادة منظمة مع اللطف واللين والرحمة. ولقد استمرت علاقتي بمعالي الشيخ محمد بن علي الفايز -رحمه الله- باقية بعد الوظيفة فقد تعاهدنا على ذلك حتى مغادرة هذه الدنيا الفانية، وها هو قد سبقني لدار البقاء -رحمه الله رحمة واسعة- لكن الوفاء يمتد له ولأبنائه الكرام، ومن ذلك مثل تلك الكتابات التي تعبر عن نزر يسير من حق كثير لشخص كبير،وصدق القائل إذ قال:
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حياً..
وكل ما أشرت له ومالم أتمكن لضيق المساحة من ذكره يعكس جزءاً من شخصيته الشاملة للمبادئ الممتلئة بالقيم، فمن اقترب منه -رحمه الله- لاحظ حرصه الشديد على أمور الخير والواجبات التي أملاها ديننا الحنيف ومواظبته على أدائها بدقة ومسابقته للمؤذن في الصلوات مع عنايته بالصدقات ومساعدات الآخرين، مبتدئا بالأقرب فالأقرب، ومما يتصل بذلك أيضاً تربيته لأبنائه وبناته على المبادئ الإسلامية والآداب الاجتماعية، والقيم العملية، وعنايته الكبيرة بحقوق الآخرين، ومن ذلك العاملون معه فقد كان من اللافت متابعته لترقيات موظفيه وحثه على إنجازها واستكمال حقوقهم، وتواصله معهم بدون حواجز، بل حتى مع المراجعين ويحثنا كثيراً على إنجاز معاملات الناس والتواضع لهم؛ لذا فلا عجب أن يستمروا متواصلين معه بعد تقاعده، حافظين وده، مقدرين تقديره، سواء في مجلسه الأسبوعي العامر بكثير من محبيه أو في سائر وسائل التواصل، لقد بنى -رحمه الله- جسوراً من المحبة والتقدير مع كل العاملين معه، وقد كان كذلك مع قرابته رغم كثرتهم يتواصل معهم ويتفقدهم وذلك كله فرعه عن بره بوالديه الشديد -رحمهم الله- ولعل هذا من أسرار توفيقه وعونه وقبوله رغم ما تحمله من مسؤوليات جسام ومهام ثقال تنوء بحملها الجبال.
عزاؤنا برحيل الفقيد هو أنها سنة الحياة، وأن المؤمن لا تنتهي حياته بوفاته، بل يستمر عمله الصالح الذي نرجو أن يكون له شفيعاً، وذكراه الطيبة التي نستلهم منها العبرة، وأبناءه البررة الذي يواصلون المسيرة، ويذكروننا بالسيرة، فاللهم أسبغ رحمتك وعفوك على فقيدنا وأسكنه الفردوس الأعلى ووالدينا والمسلمين.