د. صالح بن محمد الصغير
في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي يواجهها العالم، تبرز المملكة العربية السعودية كقائدة للجهود الدولية لمواجهة أزمة الجفاف من خلال إطلاق مبادرة «شراكة الرياض العالمية».
هذه المبادرة الطموحة تعكس التزام المملكة الراسخ بالاستدامة البيئية والمسؤولية العالمية، وتأتي كاستجابة استباقية لأحد أخطر التحديات التي تهدد الأمن الغذائي والمائي لمليارات الأشخاص حول العالم.
تنتشر موجات الجفاف وملامح التصحر في جميع أنحاء العالم، وقد صارت أشبه بقاتل صامت بطيء يهدد الأمن الغذائي والبيئي ويفاقم أزمة المناخ. وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الجفاف من المشاكل ذات البعد العالمي؛ فهو يؤثر على جميع مناطق العالم بلا استثناء، وبذلك فإن العمل المشترك للمجتمع الدولي مهم وضروري للتصدي لظاهرة التصحر والجفاف ومنع أسبابها. وقد أكّد الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (إبراهيم ثياو) أنه لا توجد دولة محصنة ضد الجفاف، وأن 85 % من الأشخاص المتضررين هم في دول منخفضة أو متوسطة الدخل.
ورغم أن تأثير الجفاف قد لا يبدو بالصورة الظاهرية نفسها للأعاصير والزلازل، إلا أنه بالتأكيد يكون أقوى تأثيراً، ويكلّف ثمناً باهظاً جداً. حيثُ إن موجات الجفاف تؤثر على جميع آفاق الأرض تقريباً. وقد أثّرت في 1,84 مليار شخص عام 2022م، وأعلنت أكثر من 55 دولة حالات الطوارئ بسبب الجفاف بين عامي 2020م و2023م، وأن تأثيرها يزداد سوءاً وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر.
في إفريقيا، تأثرت 38 % من مساحات الأراضي على مستوى القارة بالجفاف بين عامي 2016م و2019م وفق التقارير الرسمية، وشهدت أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي دماراً مماثلاً، حيث تأثرت 37,9 % من مساحة الأراضي خلال الفترة نفسها. ويُعد الجفاف السبب الرئيس لانعدام الأمن الغذائي والمائي، كما أدى إلى نزوح الملايين داخلياً وخارجياً، فضلاً عن تكبّد الدول المتضررة خسائر اقتصادية فادحة.
وقد أعلنت المملكة العربية السعودية على هامش مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16) الذي عُقد في الرياض في الفترة من 2 إلى 13 ديسمبر 2024م إطلاق مبادرة «شراكة الرياض العالمية» للتصدي لأزمة الجفاف، وجاء هذا الإعلان من قبل معالي وزير البيئة والمياه والزراعة المهندس عبد الرحمن بن عبد المحسن الفضلي، رئيس الدورة الـ 16 للمؤتمر؛ وذلك من أجل القدرة على الصمود في مواجهة الجفاف. وقد خصصت المملكة العربية السعودية دعمًا ماليًا ضخمًا للمبادرة حيث أعلنت عن تخصيص 150 مليون دولار أمريكي على مدى السنوات العشر المقبلة. وهذا الدعم يعكس ريادة المملكة في تقديم حلول استباقية للتحديات البيئية والإنسانية، ويمثل التزامًا طويل الأجل بمواجهة هذه الأزمة العالمية.
وقال سعادة وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة للبيئة ومستشار رئاسة مؤتمر (كوب 16) د. أسامة بن إبراهيم فقيها: «إنه يتأثر أكثر من 1,8 مليار شخص بالجفاف، ومن المتوقع أن تتسارع وتيرة زيادة هذا الرقم في السنوات اللاحقة، وبناءً عليه، يجب أن تكون القدرة على مواجهة الجفاف ذات أولوية عالمية، وأن نتحول من الاستجابة اللحظية بعد حدوث الجفاف، إلى اتخاذ موقف استباقي من خلال الاستعداد الشامل للجفاف والقدرة على مواجهته»؛ ولدعم هذه الجهود وتعزيز التعاون بين المنظمات والجهات المعنية، للاستعداد للجفاف قبل وقوعه.
تأتي مبادرة «شراكة الرياض العالمية» استكمالاً للجهود السعودية المتواصلة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية في مجال الاستدامة البيئية. وستعمل هذه المبادرة بالشراكة مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر والدول والمنظمات الدولية وأصحاب العلاقة الآخرين على تحفيز التحول في كيفية التعامل مع تحديات الجفاف في جميع أنحاء العالم؛ لتتحول آليات مواجهة الجفاف بطريقة جذرية بدلاً من الاستجابة الطارئة بعد وقوع الأزمات، وسيكون التعامل معها وفق نهج استباقي، من خلال تطوير استراتيجيات دولية متكاملة تشمل: تقييم مخاطر واحتمالات الجفاف، وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر في الدول التي تفتقر للقدرات اللازمة للقيام بذلك من خلال مساعدة المراكز الإقليمية المعتمدة من قبل المنظمة العالمية للأرصاد الجوية القائمة حالياً ومنها الجهات التابعة للمركز الوطني للأرصاد، وتقييم جوانب الضعف الإقليمي والعالمي للتخفيف من مخاطر الجفاف، وتبنّي حلول مبتكرة قائمة على التشجير البيئي والزراعة المستدامة والمحاصيل المقاومة للجفاف، وتسهيل التمويل لتعزيز البنية التحتية للمياه وتقديم حلول تأمينية لصغار المزارعين.
كما تهدف هذه المبادرة في تضافر الجهود بين الدول والمجتمعات والقطاعات المتأثرة لمواجهة تحديات الجفاف، وتعزيز القدرة على الصمود أمامه في أكثر من 80 دولة حول العالم. ولا شك أن هذه المبادرة «شراكة الرياض» سيكون لها العديد من التأثيرات الاجتماعية الاقتصادية، حيث إن الجفاف والتصحر ليسا مجرد مشكلتين بيئيتين، بل هما تحديان إنسانيان يتطلبان استجابات شاملة ومتكاملة، يساعدان في تحقيق العديد من الأهداف الاجتماعية وجعل المستقبل أكثر استدامة بيئياً ومناخياً واجتماعياً واقتصادياً.
وأخيراً تمثل مبادرة «شراكة الرياض العالمية» خطوة نوعية في الجهود الدولية لمواجهة أزمة الجفاف، وتعكس حرص المملكة ودورها الرائد في توحيد الجهود الدولية وتبني نهج استباقي يعزز القدرة على الصمود في وجه التحديات المناخية المتزايدة، مما يسهم في بناء مستقبل أكثر استدامة وأمانًا للبشرية جمعاء. فهذه المبادرة ليست مجرد التزام مالي وسياسي، بل هي نموذج عملي للقيادة المسؤولة والتعاون الدولي الفعال في مواجهة أحد أخطر التحديات التي تواجه عالمنا اليوم.
** **
- أستاذ علم اجتماع البيئة