سليم السوطاني
شهدت الساحة الثقافية السعودية أخيرًا تداولَ آراء نقدية حول «الأدب الغرائبي والعجائبي»، وتحديدًا حول إقبال القراء الكبير على روايات «أسامة المسلم»، والتجمهر حوله أثناء حضوره بعض معارض الكتب. واختلفت وجهات النظر حول قيمة هذا النوع في الأدب، وتفرقت شِعَبًا قِدَدًا في الشد والجذب، بعيدًا عن مناقشة ظاهرة ازدحام الجمهور حول كتّاب أحد هذا النوع الأدبي العجائبي.
لن أخوض في الآراء التي تمخضت عن هذا الحراك الثقافي، ولن أفند شيئًا منها، أو أبدي رأيي في روايات «المسلم» بحكم أنني لم أقرأ له، لكنني سأتجه بفكرة المقالة إلى عامل «القارئ» الذي يُعَدُّ هو محور إثارة هذا الموضوع من الأساس، وإقبال القرّاء على قراءة هذا النوع الأدبي، بعيدًا عن التدخل في حرية القارئ في الاختيار والتوجه، وفرض الوصايا على ذائقته، فأقبح ما يمارس في الكتابة الإبداعية هو توجيه القراء إلى قراءة أعمال روائية معينة، وتحذيرهم من هذا العمل أو ذاك.
الأدب مثل الحديقة الغناء، الوارفة الظلال، المليئة بالأزهار والورد والأشجار، والمسطحات الخضراء، والمجسمات الجذابة، فمرتادها له الحرية الكاملة في أن ينعم بهذا الجمال والاختلاف، وتميل نفسه إلى الإعجاب بما يبهجها ويجذب عقله ويأسر لبه، فمحب الأدب يختار ما يشاء ويشتهي بإرادته..
«الأدب الغرائبي والعجائبي»، بهذا المسمى العربي، ليس وليد اللحظة، فهو - كما يعرف الجميع – الأدب الذي يعتمد على عناصر التخييل والإثارة والتشويق، والخروج على المألوف، والابتعاد عن نطاق الواقع، وأدبنا العربي مليْءٌ بهذه النماذج، مثل كتاب «ألف ليلة وليلة»، وكتاب «رسالة الغفران» للمعري، وغيرها من النماذج.. وحتى على مستوى المرويات الشعبية، التي سمعناها في مرحلة من أعمارنا من أفواه أجدادنا وآبائنا، نجدها مروياتٍ خارجةً على المألوف، ومطعمة بالخرافة، وحكايات الجن والسحر والشعوذة، والحيوانات والأحجار الناطقة، وقد حازت على إعجابنا، بل ورسخ بعض القصص في ذاكرتنا وأحدثت الدهشة والخوف العميق في أنفسنا من أحداثها العجائبية. ونجد لكل منطقة مروياتها الشعبية بحكم منطقتها الجغرافية وزمنها.. لذا فإن الأدب الغرائبي والعجائبي ليس مجرد ثرثرة عجائز، أو حكايات بلا قيمة، فعنصر التخييل، الذي يتَّكئ عليه هذا الجنس، بحد ذاته عنصر مهم؛ إذ يفصل القارئ عن واقعه ويجعله يندمج اندماجًا عميقًا في القصة، وعلى رغم أن القارئ أو المستمع يؤمن إيمانا تامًا بأن الأحداث، التي جرفه سيلها وسيطرت عليه، مستحيلٌ تحققُها على أرض الواقع، ومع ذلك يتسلل الخوف والرهبة إلى داخله حتى يتمكنا منه، وتحدث هزة عنيفة، يخرج منها بدهشة ممتعة، وتخزن ذاكرته تلك القصة، وينقل بعض أحداثها إلى غيره.
ويقفز إلى ذهني سؤال فلسفي، هو: ما الذي جعل المتلقي يشعر بالخوف العميق من أحداث الرواية «الفانتازيا» ويندمج فيها، مع إيمانه الكامل بأن تلك الأحداث من المحال أن تتحقق في الواقع، ويعلم أنها مجرد خيال سافر؟
الأدب مهمته دائماً إحداث التأثير في مشاعر وعاطفة الإنسان، فإذا تحقق ذلك فقد نجح المبدع في الوصول إلى غايته.
لذا أرى أن الروائي كلما كان يصيد فكرة مختلفة، ويدعمها بخيال واسع، ويمسك بتلابيب عمله، ويجعل سرده مترابطًا متماسكًا، ويجعل القارئ يحلق بعيدًا عن الواقع، ويفاجئُه بأحداث عجائبية، من دون أن يشعر بذلك، ينجح في السيطرة على إحساس القارئ وسرقة إعجابه ودهشته، وهذا هو جوهر أدب «الفانتازيا». وأذكر - على سبيل المثال - في عصرنا الحاضر ما أحدثته سلسلة أغنية «الجليد والنار» لجورج مارتن، من دهشة في نفوس القراء، حتى حوّلت أجزاء الرواية الخيالية إلى مسلسل جنى مشاهدات عالية.
لذلك أرى أن على الدراسات النقدية، التي تسلط الضوء على ما يخص الأعمال الروائية، ألّا تتجاهل «ذائقة القراء»، حتى لو كان جمهور هذا العمل من فئة عمرية معينة، فلكل فئة عمرية خصائصها التي يناسبها نمط أدبي مختلف عما يناسب الأعمار الأخرى.
ومن وجهة نظري؛ فإن الفئة العمرية التي تُقبل على أدب «الفانتازيا» لن تستطيع الوصول إليها، وتسحبها إلى عالم القراءة، إلا من خلال هذا الجنس الأدبي، ولن تدهشه وتثير اهتمامه باللغة والقصص إلا من خلال أحداث تدور في عالم آخر لا ينتمي إلى واقعه، مثل حرب الكواكب، والصراعات الدامية، وتحوّل الإنسان إلى وحش كاسر أو عفريت… لذا أرى لزاماً على النقد أن يسلط أدواته على هذا النوع، بعيدًا عن «الإقصائية»، ولا بأس في أن تصدر الأحكام النقدية التي يكون هدفها إثراء الكاتب والقارئ في هذا المجال، وقد يطّعم هذا النوع بمبادئ وقيم وصور هادفة تؤثر في القراء...
الساحة الأدبية الإبداعية قالبٌ تُصَبُّ فيه جميع الأجناس الأدبية المختلفة، ويستوعبها. وذائقة القراء هي الرهان على رواج العمل ووصوله إلى شريحة كبيرة من القراء، ولا نستطيع إنكار أن الذائقة تتحكم بمشهد الإبداع وحجم الإقبال على أي نوع، ولو لم يكن إقبال القراء والتهافت على روايات «الفانتازيا» لما شهدنا الآراء النقدية المختلفة أخيرًا، والحراك الثقافي المثير الذي حدث حول هذا الموضوع.