الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
انتشرت في الآونة الأخيرة كثرة قضايا الخلافات المالية بين الأقارب أكثر من خلافات الأباعد، بسبب الثقة، وعدم التوثيق، والتساهل فيه، وبالذات في المعاملات المالية، وفي مسائل الميراث، والوقف وغيرها. ولاشك أن نشوء هذه الخلافات وتفاقمها لها أضرار جسيمة وعواقب وخيمة على المستوى الاجتماعي والأسري.
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين ليتحدثوا عن السبل الكفيلة لتعزيز أهمية التوثيق وطرقه وأساليبه للحد من هذه القضايا التي كثرت في الساحة القضائية.
لبس وسوء فهم
يؤكد الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله الزكري قاضي الاستئناف أن التوثيق هو من أهم الوسائل للحد من الخلافات المالية، خاصة بين الأقارب، حيث إن غياب التوثيق يؤدي إلى اللبس وسوء الفهم، مما يسبب النزاعات ويقطع صلة الرحم، ومن السبل الكفيلة بتعزيز أهمية التوثيق ونشر ثقافته:
1 - تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية التوثيق:
من خلال نشر التوعية من خلال الحملات الإعلامية والمحاضرات والندوات التي تبيّن مخاطر التساهل في المعاملات المالية بين الأقارب، وإدخال مفاهيم التوثيق والحقوق المالية في المناهج الدراسية والتثقيف الأسري.
2 - التثقيف الديني والشرعي:
تسليط الضوء على الأحكام الشرعية التي تحث على التوثيق، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة: 282)، وإبراز دور التوثيق في حفظ الحقوق وتجنب القطيعة العائلية.
3 - سن قوانين وتشريعات صارمة:
الإلزام بتسجيل المعاملات المالية الرسمية، وخاصة الكبيرة منها، في الجهات المختصة مثل: كُتّاب العدل أو المحاكم، ومن خلال منصة ناجز حيث وفرت وزارة العدل خيارات عديدة للتوثيق، وهي في متابعة تطوير إجراءات التوثيق الإلكتروني لتسهيل العملية وتقليل التجاوزات.
4 - تسهيل إجراءات التوثيق:
تقديم خدمات إلكترونية لتوثيق العقود والمعاملات المالية عبر التطبيقات الحكومية أو البنوك.
5 - تعزيز ثقافة العقود المكتوبة:
تشجيع الأفراد على كتابة العقود بين الأقارب، حتى في الأمور البسيطة مثل القروض والمساهمات المالية، ونشر نماذج عقود مبسطة تسهّل عملية التوثيق.
6 - دور الأسرة في غرس ثقافة التوثيق:
تعليم الأبناء أهمية التوثيق منذ الصغر من خلال الممارسات اليومية، وتشجيع أفراد الأسرة على توثيق المعاملات بينهم للحفاظ على العلاقات العائلية مستقبلاً.
وعي واستقرار
وشدد الدكتور عبدالمحسن الزكري على أن الالتزام بهذه السبل يحدّ بشكل كبير من النزاعات المالية بين الأقارب، ويسهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا واستقرارًا.
الأقارب والتركات
يشير الشيخ راجس بن أحمد الشرافي الأمين العام للمؤتمر الإسلامي للأوقاف إلى أن النفوس جبلت على حب المال وعلى طلب العز والمجد ، وهذه الغرائز ما لم يتم تقويمها بالتربية والتوجيه وتعزيز الإيمان من جهة والتنظيم والحوكمة من جهة أخرى، وهاتين الركيزتين أساس تكوين المجتمعات الصحية فالنفوس التي تربت على الإيمان وحفظ الحدود والتسامح والعطاء والبذل لا تقبل سلوك سبيل الاعتداء والظلم والنفوس التي امتلأت جشعاً وأنانية، وسيبقى المجتمع مسؤولاً عن بناء التنظيمات الكافية والمنهجيات الوقائية التي تحفظ حق الضعيف قبل القوي.
والمتأمل اليوم لقضايا المحاكم سيجد خلافات الأقارب أكثر من خلافات الأباعد بسبب تغليب حسن الظن وعدم الاتجاه للتنظيم فتكون التركة غير المنظمة سبباً لنقمة العائلة بدل سعادتهم.
ويكون عدم التوثيق سبباً لحرمان فئة واستئثار فرد أو أكثر بمنفعة جماعة؛ لذلك نجد المجتمعات تتمدن وتستفيد من أخطائها فتنشئ الشركات العائلية والصناديق العائلية، وتنظم التعامل مع التركات بشكل يضمن حفظ الحقوق وعدم تغلب القوي على الضعيف والولي على من تحته والوصي على ما في يده بالغش والحيلة باسم النظام والعرف الاجتماعي، كما تجد الفرد الواعي يكتب الوصية وينشئ أسرته على العطاء فالنفس التي تتعود البذل لا تستأثر ولا تعتدي، وهذه المنهجيات الواعية على مستوى الفرد والجماعة تحد من الظلم وغلبة ضعاف النفوس.
مدخل الشيطان
ويقول الأستاذ ثامر بن محمد السكاكر المحامي والمستشار القانوني: لطالما استبعد كثير منا أن يحدث له خلاف مع قريب له، وكان على يقين أنه وإن نشأ خلاف فسيكون الحل سهلاً - بإذن الله - فأواصر المحبة والقرابة ستكون سداً منيعاً أمام أي خلاف، وهذا أمر جميل ولا ننكر أنه يحدث بين كثير من الأقارب في مجتمعنا الخير، إلا أن الحكمة تلزم على المرء أن يتبع ما وجه به القرآن الكريم بتوثيق الديون، فمدخل الشيطان بين الأقرباء هو عدم وجود التوثيق للاتفاق فيما بينهم، وقد يكون هناك نقاش عابر يظن أحدهم أنه اتفاق بينما هو مفاوضات في نظر الآخر فيحدث الخلاف، وكل من هو قريب من الشركات العائلية وقريب من المحاكم سيعلم أن المحاكم مليئة بالقضايا بين الأقارب سواءً كانوا أشقاء أو أزواجاً وغيره من صلة القرابة بين المختلفين، فيكبر النزاع من نزاع مالي ليصبح عائلياً وتشكيكاً بالذمم واتهامات متبادلة وفرقة بينهم وتدخل أطراف من العائلة لحل النزاع فيحدث نزاع أكبر، ثم لا تنسَ أن خصمك قد لا يكون قريبك الذي اتفقت معه أو وكلك وبينكما ثقة كبيرة، بل قد يكون أحد ورثته الذي قد لا تعرفه ولا يعرفك.
نصيحة ثمينة
وقدم المحامي ثامر السكاكر نصيحة من واقع الحياة: لا تأخذ ولا تعطي مالاً بلا توثيق، ولا تشارك بلا توثيق، ولا تستلم مالاً بلا توثيق سببه ومصارفه، وإن كنت ولياً على قاصر عقلاً أو سناً فدون مصاريفه بعناية ولا تتجاوز حدود ما أذن لك به صك الولاية، وإن كنت وكيلاً عن ميراث فلا تبع أو تشري إلا بموافقة الورثة بموجب ورق ممهور بتوقيعهم، ثم أوصيك بحفظ المستندات وإن بعد زمان الإجراء فقد تظن أن الأمر قد مضى عليه زمان طويل، إلا أن القاصر يكبر فيطالبك والقاصر عقلاً ينتقل إلا رحمة الله فيحاجك الورثة في تصرفاتك، لذلك وثق كل شيء وإن خجل الطرف الآخر من التوثيق فلا تخجل أنت،
واعلم أن هذه الورقة التي يخجل منها البعض ستغلق باب دخول الشيطان بينكم، مشدداً في ختام حديثه قائلاً: إن جاءت فرصة للصلح فلا تفرط به وإن خسرت شيئاً من مالك، فخسارة الأهل لا تعوض وخسارة المال تعوض، ولا نقول هنا فرِّط بمالك لكن كن على قدر كاف من الحكمة لتعلم أن الصلح خير.