المهندس/ ناصر بن عبدالله العبدالقادر
أولت حكومة المملكة العربية السعودية اهتماماً كبيرا بالمحتوى المحلي باعتباره محركاً رئيسا للتنمية، فأنشأت هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية، وأصدرت لوائح وتنظيمات تُفضّل المحتوى المحلي وتدعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة والشركات المدرجة في السوق المالية، بالإضافة إلى ضوابط المحتوى المحلي للشركات المملوكة بالكامل للدولة أو أي من أجهزتها الحكومية أو التي تمتلك فيها الدولة أكثر من 50 %، وغير ذلك العديد من التشريعات الهادفة لتعزيز ودعم المحتوى المحلي.
وقد عرّفت اللائحة المحتوى المحلي بأنه: إجمالي الإنفاق داخل المملكة من خلال مساهمة العناصر السعودية في القوى العاملة، والسلع، والخدمات، والأصول، والتقنية، وغيرها. يُعد المحتوى المحلي من الأدوات الحيوية لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي، وتنمية القطاعات الاستراتيجية، وخلق فرص عمل نوعية للمواطنين.
ومازال المنتج الوطني يتطلب المزيد من التوضيح من حيث المفهوم والتطوير فيما يتعلق بآليات التطبيق، إذ إنه يمثل حجر الزاوية في تحقيق أهداف المحتوى المحلي.
وبحسب لائحة تفضيل المحتوى المحلي والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، فإن المنتج الوطني هو كل منتج تم إنتاجه في المملكة، سواء كان استخراجياً، زراعياً، حيوانياً، أو صناعياً، وفي أي مرحلة من مراحل المعالجة أو التصنيع أو التجميع.
إلا أن هذا التعريف، ورغم شموليته، يواجه انتقادات من عدد من المتخصصين وصنّاع القرار، كونه لا يُميز بدقة بين التصنيع الفعلي والتجميع السطحي لمكونات مستوردة. إذ تُصنَّف بعض المنتجات وطنية رغم أن القيمة المضافة المحلية فيها لا تتجاوز 10 %، بينما توجد منتجات تحقق نسب توطين تفوق 90 %، ما يُبرز الحاجة إلى إعادة صياغة تعريف المنتج الوطني بشكل يُراعي نسبة المكونات المحلية الفعلية ونوعية العمليات الصناعية.
ويرتكز المحتوى المحلي على أربعة عناصر رئيسية:
الأول هو الأصول: تشمل المواد والمكونات الأساسية المستخدمة في سلاسل الإنتاج، وتمثل القاعدة التي تُبنى عليها الاستدامة الصناعية وتعظيم القيمة المضافة.
والثاني السلع والخدمات: محور جوهري مثير للنقاش، خاصة في ظل الجدل حول المنتج الوطني، وأهمية وضع مواصفات فنية دقيقة لكل منتج محلي لضمان الالتزام بالقائمة الإلزامية الصادرة عن الهيئة.
والثالث هو القوى العاملة؛ حيث يمثل تطوير الكفاءات الوطنية تحدياً يتطلب مواءمة التعليم الجامعي والتقني مع احتياجات السوق، عبر تنسيق فعال بين الجامعات ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وتعزيز البرامج الخاصة بحماية الموظف السعودي في القطاع الخاص لضمان الاستمرارية.
والرابع البحث والتطوير والتدريب؛ ويمثل هذا المحور رافعة للابتكار وجودة الإنتاج، ويسهم في تعزيز التنافسية من خلال برامج تدريبية وأبحاث تطبيقية.
وتُعد تجربة الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية السابقة لدونالد ترمب نموذجاً مهماً ينبغي الاستفادة منه في دراسة آثار السياسات الحمائية القائمة على فرض تعريفات جمركية مرتفعة لتعزيز المحتوى المحلي وحماية الصناعات الوطنية. وقد ركزت الإدارة الأميركية آنذاك على فرض رسوم استيراد عالية، خصوصاً على المنتجات الصينية، سعياً لرفع نسبة الإنتاج المحلي وتحفيز الاستثمار الداخلي.
ورغم أن هذه الإجراءات أسهمت مؤقتاً في حماية بعض القطاعات الصناعية، فقد كان لها أثرها السلبي حينما أسهمت في ارتفاع أسعار المواد الخام والسلع الاستهلاكية، وتسببت في حدوث اضطرابات في سلاسل الإمداد، ما دفع العديد من الشركات الأميركية إلى إعادة النظر في قراراتها الاستثمارية، وقد وُجهت انتقادات لهذه السياسات باعتبارها حمائية قصيرة النظر، تفتقر إلى رؤية متكاملة تأخذ في الاعتبار تأثيراتها على المستهلك والتنافسية طويلة الأمد.
الدرس المهم هو تجنّب الاعتماد على حلول سريعة أو مؤقتة، والتركيز بدلاً من ذلك على بناء منظومة توطين شاملة ومستدامة، تقوم على الجودة، ورفع الكفاءة الوطنية، والتكامل بين السياسات الصناعية والتعليمية والتجارية.
ورغم حداثة منظومة المحتوى المحلي، فقد تحققت إنجازات ملموسة في توطين صناعات محورية مثل الصناعات العسكرية، وصناعة الأدوية، والطاقة المتجددة، والقطاع اللوجستي، ما يعكس التزام المملكة بالتحول نحو اقتصاد مستدام وشامل. ومع ذلك، ما تزال هناك تحديات جوهرية، على رأسها غياب تعريف دقيق ومُحكم لمفهوم المنتج الوطني، ما يؤدي إلى تصنيف غير منصف لبعض المنتجات دون اعتبار كافٍ لنسبة القيمة المضافة المحلية. وللتغلب على هذا التحدي، فإنه ينبغي إعادة النظر في مفهوم المحتوى المحلي، وتبني منهجية «التوطين» الأوسع مفهوما والأكثر دقة، بحيث تستند صفة “المنتج الوطني” إلى معايير واضحة تأخذ في الاعتبار نسبة المكونات المحلية، وعمق التصنيع، واعتماد المنتج على الكفاءات الوطنية. كما أن تعزيز التكامل بين الجهات المعنية، مثل هيئة المحتوى المحلي، وهيئة المواصفات والمقاييس، والجهات المشرفة على المشاريع، أصبح ضرورياً لإصدار مواصفات فنية دقيقة للمنتجات الوطنية، تسهّل على الجهات المنفذة، والمصممة، والرقابية، الالتزام بالقائمة الإلزامية دون استثناءات غير مبررة. وفي السياق ذاته، ورغم جهود وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لتطوير أنظمة العمل وتوثيق العلاقة التعاقدية بين الموظف وجهة العمل؛ إلا أننا لانزال نسمع عن بعض القضايا المتعلقة بالاستغناء عن الموظف السعودي دون مبررات واضحة، مما يثير قلقاً حول انخفاض مستوى الأمان الوظيفي للمواطن السعودي في بعض القطاعات.
ومن وجهة نظر الموظف، تبرز الحاجة إلى ضمانات أقوى ضد الفصل التعسفي، وتفعيل آليات الانصاف بشفافية وعدالة. وتحقيق التوازن بين بيئة العمل الجاذبة وحقوق الموظف الوطني سيكون عاملاً حاسماً في استقرار سوق العمل وزيادة الإقبال على وظائف القطاع الخاص، مما يُسهم بدوره في تعزيز المحتوى المحلي.