د. منى بنت سعيد القحطاني
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي وتتنافس فيه الأفكار المبتكرة، لم يعد الإبداع خيارًا هامشيًا، بل أصبح ضرورة تمسّ كل جوانب الحياة. الابتكار هو القوة المحركة للمستقبل، وهو ما يفرض علينا إعادة النظر في الكيفية التي ننشئ بها الأجيال ونوجّهها. وغالبًا ما يُنظر إلى الإبداع على أنه خاصية نادرة تولد مع بعض الأفراد، إلا أن الحقيقة أنه قابل للتنمية، ويبدأ من الطفولة، حين تتفتح عقول الأطفال على خيال لا تحده القوانين ولا تقيده الأعراف.
من هنا تبرز أهمية التعليم الذي يعتني بالإبداع، لا التعليم الذي يكتفي بتلقين المعرفة، بل ذاك الذي يوقظ الطاقات الكامنة في العقول الناشئة، ويفتح أمامها أبواب الاكتشاف والتجريب.
يأتي الاحتفال باليوم العالمي للإبداع والابتكار في الحادي والعشرين من أبريل ليعيد التذكير بأهمية التفكير الخلاق في تشكيل المجتمعات وصناعة المستقبل. هو يوم لا يكتفي بكونه مناسبة سنوية، بل دعوة إلى تأمل مدى قدرة نظمنا التعليمية والاجتماعية على احتضان الإبداع وتمكينه من أن يتحول إلى واقع ملموس. ففي بيئة تتغير معطياتها كل يوم، لم يعد كافيًا أن نحشو العقول بالمعلومات، بل علينا أن نعلّم أبناءنا كيف يفكرون، لا بماذا يفكرون. أصبح واضحًا أن التعليم القائم على التلقين والحفظ لم يعد يلبي حاجات العصر، وهو ما يدعونا إلى تطوير مناهج تعليمية مرنة، تشجع على التفكير النقدي، وتفتح المجال أمام الطلاب لاكتشاف ذواتهم وقدراتهم.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال دور المعلم، الذي لم يعد ناقلًا للمعرفة فقط، بل موجهًا وميسرًا ومُلهمًا. فحين تتحول الفصول الدراسية إلى مختبرات تفاعلية، ويُمنح الطلاب فرصًا للبحث والتجريب باستخدام أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز، والبرمجة، فإننا نكون قد وضعنا أقدامهم على طريق الإبداع الحقيقي، الإبداع لا يأتي من فراغ، بل يحتاج إلى بيئة حاضنة، تسمح بالخطأ، وتحتفي بالمحاولة، وتشجع الطفل على تحويل خياله إلى منتج أو حل أو فكرة.
من المؤسف أن العديد من الأنظمة التعليمية لا تزال تعتبر الفشل أمرًا ينبغي تجنبه، بينما في واقع الأمر، يعد الفشل عنصرًا أساسيًا في أي تجربة إبداعية. فالطفل الذي يُمنح المساحة ليخطئ، هو الطفل الذي يتعلم كيف يعيد المحاولة، ويبتكر، ويجد حلولًا جديدة. حين نُعلّم الأطفال أن الخطأ ليس نهاية المطاف، بل بداية لفهم أعمق، فإننا نؤسس لعقلية مرنة قادرة على التعامل مع التحديات بثقة وإبداع.
وما يعزز من هذه الرحلة الإبداعية هو اللعب، تلك الأداة التي كثيرًا ما نغفل عن قيمتها التربوية. فحين يُوظف اللعب في التعليم، يصبح وسيلة لبناء مهارات عقلية واجتماعية، كالتفكير الاستراتيجي، والتعاون، وحل المشكلات. في أثناء اللعب، لا يشعر الطفل بأنه يُمتحن أو يُقيَّم، بل ينخرط في نشاط يحفز خياله، ويغذي فضوله، ويمنحه حرية التفكير والتعبير.
ومع أن المدرسة تُعد المكان الأول لتشكيل وعي الطفل، فإن دور الأسرة لا يقل أهمية. فحين يتكامل دور الوالدين مع المدرسة، تتحول العملية التعليمية إلى تجربة غنية ومتوازنة. الأسرة التي تشجع طفلها على التساؤل، وتشاركه القراءة، وترافقه في استكشاف العالم، تساهم بفاعلية في بناء شخصيته الإبداعية. إننا بحاجة إلى بناء شراكة حقيقية بين البيت والمدرسة، شراكة يكون محورها الطفل، ويكون هدفها بناء إنسان قادر على أن يرى العالم من زوايا مختلفة.
في ظل الثورة التقنية، لم يعد الإبداع حكرًا على الفنون والآداب، بل بات يشمل ميادين التكنولوجيا والعلوم والطب والهندسة. الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أصبح أداة قادرة على فتح آفاق جديدة لحل المشكلات المستعصية، واكتشاف حلول غير تقليدية. وهنا يبرز سؤال مهم: هل نحن نهيئ أبناءنا للتعامل مع هذه التقنيات لا كمستهلكين، بل كمبدعين؟ إن إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي إلى البيئة التعليمية لا يجب أن يقتصر على الجانب التقني، بل لا بد أن يكون جزءًا من فلسفة تعليمية تشجع على استخدام هذه الأدوات في إنتاج الأفكار، وتحليل المشكلات، وبناء الحلول.
ورغم أهمية التعليم الرسمي، فإن التعليم الذاتي يظل ركيزة لا غنى عنها في بناء شخصية متجددة ومبدعة. القدرة على التعلم المستقل، والسعي المستمر نحو المعرفة، والانفتاح على مصادر التعلم الرقمية، كلها عوامل تعزز من الإبداع. فالعقل الذي يعتاد البحث والاكتشاف لن يتوقف عن التطور، وسيظل قادرًا على ابتكار الجديد، وتخطي العقبات.
إذا أردنا أن نؤسس لتعليم يواكب متطلبات العصر، فعلينا أن ننتقل من مفهوم التعليم بوصفه نقلًا للمعلومات، إلى كونه رحلة فكرية وإنسانية. حينها، يصبح الطالب باحثًا، مفكرًا، ومبتكرًا. وبدلًا من أن نحصره في قوالب جاهزة، نتيح له مساحة لصياغة أسئلته، والتجريب، والتأمل، والعمل الجماعي.
إن زرع الإبداع في عقول الأطفال اليوم، هو استثمار طويل الأمد في مستقبل تتغير ملامحه بسرعة. وحين نمنح أطفالنا بيئة تعليمية مرنة، وفرصًا للخطأ والتعلم، وفضاءً للخيال والتفكير الحر، فإننا نمنحهم مفاتيح الغد. فالمستقبل ليس للذين يملكون المعلومات فقط، بل لأولئك الذين يعرفون كيف يستخدمونها بطرق خلاقة تصنع التغيير..