عواد الغامدي
لم يكن الجمال يومًا ترفًا مرفوضًا، ولا العناية بالمظهر تهمة تُعاب. بل إن من دلائل جمال هذا الدين، أنه حضّ أتباعه على النظافة، والاعتدال في الزينة، والاهتمام بالمظهر بما لا يتجاوز حدود الفطرة ولا يخل بمقاصد الخلق، لكن المؤلم اليوم أن مفهوم التجميل تجاوز حدوده المعقولة، وتحول إلى هوس يلهث وراءه الكثير، ليس بدافع الحاجة، بل بدافع التقليد، والركض خلف صورة مثالية مزيفة صاغتها الشاشات وأدمنتها العقول.
الطب التجميلي، الذي وجد في أصله لترميم الضرر، وعلاج التشوهات، وتخفيف آثار الحوادث، بات اليوم في كثير من الحالات وسيلة لتغيير الخلقة الأصلية دون مبرر طبي، عمليات باتت تجرى فقط لإشباع رغبة داخلية مؤقتة، أو لإرضاء نظرة سطحية للجمال، وقد حاد بعض الأطباء للأسف عن أمانة المهنة، وسمحوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات في هذا العبث، لا حراسًا للمعايير ولا أوصياء على الفطرة.
ما يثير القلق حقًا أن هذه الظاهرة لم تعد محصورة في أوساط النساء فقط، بل امتدت لتشمل الشباب والرجال، مراكز التجميل امتلأت بشباب في مقتبل العمر، يطلبون نحت عضلات، وتعديل أنوف، وتكبير أو تصغير ملامح، دون حاجة طبية تذكر، كل ذلك بحثًا عن صورة افتراضية فرضتها الثقافة الاستهلاكية، حتى أصبح بعضهم لا يشبه نفسه، ولا أبناؤه يشبهونه.
كم من ملامح أعيد تشكيلها حتى بات أفراد العائلة الواحدة لا يجمع بينهم شبه؟ وكم من أم تنظر إلى طفلها وتستغرب أنها أنجبته، بعدما غيرت ملامحها بالكامل؟ هذه ليست مبالغات، بل واقع نشهده، وصور تنشر بفخر على منصات التواصل، وكأنها إنجاز يستحق الاحتفاء.
لكن الأخطر من كل ذلك، أن العبث بالخلقة لم يعد مجرد خيار شخصي، بل أصبح سلوكًا جماعيًا تروج له الإعلانات، وتتبناه بعض العيادات دون مراعاة للجانب الديني أو الأخلاقي أو حتى النفسي، وقد حذرنا الله عز وجل من هذا المسار حين نقل قول الشيطان: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء: 119].
فهل بعد هذا التحذير من عذر؟ وهل نعي أننا نسهم بجهل أو بتجاهل في تنفيذ ما أقسم به الشيطان؟
إن الأمر لا يتعلق فقط بالمال، بل بما هو أعمق: بالهوية، بالرضا عن النفس، بقبول الخلقة كما أرادها الله، حين يقنع الطبيب مريضه أن شكله غير مقبول، وأن حله الوحيد مشرط جراحته، فهو لا يسهم في العلاج، بل يزرع الشك، ويهدم الثقة، ويصنع أزمة لا تحل بتعديل الأنف أو شد الجفن.
الطب أمانة، وأخلاق، ومسؤولية، ومن المؤسف أن يُفرّط بعض الأطباء في هذه المبادئ، في سبيل المال أو الشهرة أو الإقبال. نعم، ليس كل الأطباء كذلك، ولا يصح التعميم، لكن من الواجب أن نقف وقفة صريحة أمام هذا الانحدار، وأن نطالب بوضع ضوابط صارمة تحكم هذه الممارسات، وتعيد للطب التجميلي مساره الصحيح.
كما أن على الجهات المختصة أن تفعّل دور الرقابة، وتُخضع العمليات التجميلية لتقييم حقيقي قبل الموافقة عليها، تمامًا كما تفعل مع باقي التخصصات الطبية. ولا يقل أهمية عن ذلك الدور التوعوي؛ فالإعلام، والتعليم، وحتى الأسرة، مطالبة بزرع قيم الرضا والثقة بالنفس، وتحصين الأبناء ضد هذا الطوفان من المفاهيم المشوهة عن الجمال.
في النهاية، ما أجمل أن يدرك الإنسان أن الله خلقه في أحسن تقويم، كما قال جل شأنه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4].
فلا مشرط ولا مال ولا شهرة قادرة على أن تصنع جمالًا يضاهي ما وهبه الله لعباده من فطرة سليمة وخلق موزون.