د. منى بنت سعيد القحطاني
في الوقت الذي تتسارع فيه الخطى نحو تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، بات من الواضح أن التعليم يمثل حجر الأساس لكل نهضة وتقدم، ومن هنا، تبرز أهمية تطوير المنظومة التعليمية، ليس فقط من حيث البنية التحتية أو المحتوى التعليمي، بل من حيث تبنّي فلسفات جديدة ومقاربات حديثة تجعل من التعليم مشروعًا وطنيًا مستدامًا، لا مجرد مرحلة زمنية أو اجتياز اختبار.
من هذا المنطلق، جاء اختبار «نافس» كأحد أدوات وزارة التعليم لقياس نواتج التعلّم على مستوى المدارس والمناطق التعليمية، بهدف الوقوف على مكامن القوة وتعزيزها، وتحديد جوانب القصور ومعالجتها، وتحفيز المدارس نحو تحسين الأداء. هذا الاختبار، وإن كان يحمل أهمية كبيرة من حيث المضمون والتوقيت، إلا أنه لا يمكن النظر إليه كغاية نهائية بحد ذاته، بل كأداة من أدوات التحسين المستمر، وخطوة ضمن خطوات متعددة تسعى لتحقيق جودة التعليم.
في المقابل، يُعد التعليم المستدام مفهومًا أوسع وأعمق من مجرد التفاعل مع اختبار أو تقييم مؤقت. فهو تعليم لا يرتبط بزمن أو موسم دراسي، بل يقوم على رؤية شاملة تهدف إلى إعداد الإنسان للحياة بكل تحدياتها ومتغيراتها. التعليم المستدام لا يعني فقط تعلم مهارات القراءة والكتابة والحساب، بل يمتد ليشمل بناء شخصية متكاملة، قادرة على التفكير النقدي، وممارسة الإبداع، وتحمل المسؤولية، والتكيّف مع المستجدات، والمساهمة الفاعلة في تنمية المجتمع.
ولذلك، فإن انتهاء اختبار «نافس» لا يعني انتهاء العملية التعليمية، بل على العكس تمامًا، إنه بداية حقيقية لمسار تطويري جديد؛ فنتائج الاختبار، بما تحمله من مؤشرات كمية ونوعية، تمثّل كنزًا معرفيًا يمكن للمدرسة أن تستثمره لإعادة تقييم استراتيجياتها، وتحسين خططها الدراسية، وتنويع أساليبها التدريسية، بما يلبي احتياجات جميع المتعلمين.
إن المدرسة التي تسعى للتعليم المستدام تدرك أن التحسين لا يحدث في يوم وليلة، بل هو عملية تراكمية تتطلب استمرارية في التقييم، ومرونة في الممارسة، ومتابعة دقيقة للأثر. فبعد تحليل نتائج «نافس»، يتم تحديد الفروقات الفردية بين الطلاب، وبناء خطط علاجية وإثرائية موجهة، وتحفيز المعلمين على تطوير ممارساتهم داخل الصف، بما يضمن تجويد نواتج التعلّم لجميع الفئات.
ولا يقتصر التعليم المستدام على المحتوى الأكاديمي فحسب، بل يشمل أيضًا تنمية المهارات الحياتية، وتعزيز الهوية الوطنية، وترسيخ قيم الانتماء والانضباط والمسؤولية. وتتحقق هذه الأبعاد عندما تصبح المدرسة بيئة محفزة على التعلم الحقيقي، لا على الحفظ المؤقت، وحينما يُنظر إلى التقييم كفرصة للنمو، لا كوسيلة للحكم أو التصنيف. كذلك، فإن دور المعلم في التعليم المستدام لا يقل أهمية عن أي عنصر آخر. فالمعلم هو صانع الفارق الحقيقي في رحلة الطالب، وهو الذي يستطيع أن يُحوّل نتائج «نافس» إلى فرص تعليمية ذات مغزى.
ومن هنا، تبرز أهمية التطوير المهني المستمر لشاغلي الوظائف التعليمية، بوصفه ركيزة أساسية لتمكينهم من تبني الممارسات التربوية الفعّالة، وتفعيل التقويم البنائي، واستخدام البيانات بشكل منهجي في اتخاذ القرار.
أما قائد المدرسة، فهو المحرّك الاستراتيجي الذي ينسّق الجهود، ويعزز ثقافة العمل التعاوني، ويقود التغيير من خلال رؤيته وخططه النوعية. دوره لا يقتصر على إدارة الموارد البشرية والمادية، بل يمتد إلى قيادة التحول داخل المجتمع المدرسي نحو نموذج تعليمي يقوم على التحسين المستمر، والمساءلة الإيجابية، والابتكار التربوي.
كما أن التعليم المستدام لا يمكن تحقيقه بمعزل عن أولياء الأمور، فمشاركتهم الفاعلة في مسيرة التعلم تجعل من المدرسة مركزًا للتنمية الشاملة، وعندما يشعر ولي الأمر أنه شريك في التطوير، وأن صوته مسموع، يصبح أكثر تعاونًا، ويمنح أبناءه الدعم والتحفيز الذي يعزّز من دافعيتهم ويزيد من فرص نجاحهم.
ولا يمكن أن نتحدث عن تعليم مستدام دون الإشارة إلى أهمية المهارات المستقبلية في هذا العصر الرقمي المتسارع. فالتعليم اليوم يجب أن يُعِدّ الطالب للتعامل مع عالم يشهد تحولات تقنية ومجتمعية متلاحقة، ويهيئه لاختيارات مهنية متنوعة، ولمشكلات جديدة تحتاج إلى حلول غير تقليدية.
ومن هنا، فإن المناهج يجب أن تتطور، وأنشطة المدرسة يجب أن تعزز الإبداع، والتفكير التصميمي، والعمل الجماعي، والمرونة.
وبينما تُحلّل المدارس نتائج «نافس»، يجب أن تتذكر أن هذه البيانات ليست سوى «صورة لحظية» في رحلة طويلة من التعلم. إن المدارس التي تبني استراتيجياتها على ضوء هذه النتائج لا بد أن تربط بين الأهداف قصيرة المدى، والرؤية بعيدة المدى، وأن تسعى باستمرار إلى إحداث فرق حقيقي في حياة الطالب، داخل الفصل وخارجه.
إن التعليم المستدام هو التزام تربوي وأخلاقي، يتجاوز حدود المناهج والمقررات، ليصل إلى بنء الإنسان المنتج، والمواطن الصالح، والمفكر الحر. وهو ليس مشروعًا مؤقتًا، بل توجه دائم لا ينتهي بانتهاء اختبار أو تقرير، بل يستمر ويتطور كلما استوعبنا المتغيرات، وتعلّمنا من التحديات، واستثمرنا النجاحات.
وحين تُبنى المدارس على هذا الفهم العميق، تصبح نتائج «نافس» فرصة للانطلاق، لا محطة للتوقف. وتتحول التحديات إلى فرص للنمو، وتصبح كل تجربة تعليمية لبنة في بناء وطن طموح، ومجتمع معرفي، وأجيال مهيأة لمستقبل أكثر إشراقًا.
تتبنى المملكة العربية السعودية من خلال رؤية 2030 توجهًا استراتيجيًا لتطوير التعليم، بوصفه الركيزة الأساسية لتحقيق تطلعات الوطن في بناء اقتصاد معرفي ومجتمع مزدهر. وتركز الرؤية على جعل التعليم محفزًا للابتكار، ومنطلقًا لبناء الكفاءات الوطنية، من خلال تعزيز مهارات المستقبل، ودمج التقنية في التعليم، ورفع كفاءة المعلمين، وتوفير بيئات تعلم متطورة.
ويأتي هذا الاهتمام نابعًا من إيمان القيادة الرشيدة بأن التعليم هو الاستثمار الحقيقي الذي يؤسس لجيل واعٍ، قادر على مواكبة المتغيرات، والمساهمة في بناء وطنه. وتطمح الرؤية إلى أن تكون مخرجات التعليم السعودي منافسة عالميًا، ليس فقط من حيث التحصيل الأكاديمي، بل من حيث القيم، والمهارات، والتفكير الريادي.
كما تدعم الرؤية مبدأ التعليم المستدام من خلال إرساء ثقافة التعلم مدى الحياة، وتوسيع فرص التطوير المهني، وربط التعليم بسوق العمل، بما يضمن استمرارية النمو والتطور على مستوى الفرد والمؤسسة التعليمية على حد سواء.
وفي الختام.. إن بناء تعليم مستدام ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية ومسؤولية تشاركية تتطلب تضافر الجهود من جميع أطراف العملية التعليمية. ومع كل مرحلة، ومع كل اختبار مثل «نافس»، تتجدد الفرص لتقييم الأداء وتوجيه البوصلة نحو التحسين.
فلننظر إلى نتائج التقييم كمرآة تكشف لنا أين نحن، وإلى التعليم المستدام كجسر نعبر به إلى حيث نريد أن نكون. مستقبلنا لا يُبنى في يوم، بل يُصاغ مع كل فكرة ملهمة، وكل معلم متميز، وكل طالب شغوف بالمعرفة.
فلتكن مدارسنا بيئات تنبض بالحياة، تزرع الشغف، وتطلق الطاقات، وتصنع الأمل. لأن الاستثمار الحقيقي هو في العقول، ولأن أجيال اليوم هم من سيحملون شعلة الغد.