إيمان حكيم
كثيرًا ما يُقال لنا إن النُبل الحقيقي هو أن نسامح، وأن الكِبر عن الصغائر فضيلة، وأن العفو عند المقدرة خلقٌ عظيم، لكن لا أحد يخبرنا أن التسامح بدون نسيان... عمل مرهق جدًا.
أن تبذل جهدك في احتواء من أوجعك، ثم تبذل جهدًا إضافيًا في كتم ذاكرتك كلما قابلته، هو نوعٌ من النُبل المُنهِك... لا يُكافأ عليه أحد، فنحن حين نقول «أسامحك»، نخلي ساحة غيرنا من الذنب، لكن حين نقولها ونحن لا نزال نحتفظ بتفاصيل الطعنة، فإننا ببساطة... نُريح غيرنا ونتعب أنفسنا.
هنا تكمن المفارقة: «نسامح ولا ننسى» تبدو جملة ناضجة، لكنها في حقيقتها حبسة شعورية؛ لا نحن قادرون على الانتقام، ولا قادرون على النسيان، فنبقى في المنتصف: نبتسم بتوتر، ونتذكّر بصمت، ونُخفي خيبتنا خلف قناع التسامي.
في المقابل، «لا نسامح وننسى» قد تبدو أقسى، لكنها - في بعض الحالات - أصدق وأنقى. أن أنسى الموقف، لا يعني أنني منحته الغفران، بل يعني أنني اخترت عدم حمله، اخترت ألا أحمّل قلبي طاقة الحقد، ولا أُجبر نفسي على مسامحة لم أنضج لها بعد.
فالنسيان دون تسامح، قد يكون نوعًا من الحفاظ على الحق دون أن تُشهر سلاحك، نوعًا من التقدير لكرامتك، دون أن تُعلق مشاعرك على مشجب الفضيلة الجاهزة.
أما التسامح دون نسيان، فغالبًا ما يكون جميلة لا تجد من يُقدّرها، وعطاءً يعلق في قلبك أنت... لا قلب من أساءت له الذاكرة.
والحقيقة ألا أحد ينجو بالكامل، من يسامح ولا ينسى، يحمل جُرحًا مغسولًا لكنه لا يلتئم. ومن ينسى ولا يسامح، قد يمشي خفيفًا، لكنه يترك خلفه جثثًا عاطفية لا يزورها.
فمن الأفضل إذًا؟ من الذي انتصر؟ الذي غفر وتألّم؟ أم الذي تجاهل وارتاح؟ أم أن كلاهما مجرد ضحيتين... لطريقة مختلفة في التعامل مع الألم؟
ربما لم نُخلق لنكون دائمًا نُبلاء. وربما لا بأس أن نختار ذواتنا، حتى لو بدونا قساة. فلا أحد يعيش داخل قلبك سواك، ولا أحد يعرف وزن الذكرى إلا من حملها.
وإلى أن نجد الإجابة... سنبقى نتأرجح بين من نريد أن نكون، ومن استطاعتنا أن نكونه، وبين قلب يتعب من الغفران، وعقل يتعب من التذكّر، وروح لا تعرف: هل الأكرم أن نُسامح؟ أم الأذكى... أن ننسى؟