د. محمد بن إبراهيم الملحم
أستكمل معكم الحديث، حيث تحدثت عن تباعد تصوير المسلسل للحالة الاجتماعية عن الواقع في عدد مهم من المشاهد وذكرنا ضرورة أن يبنى المشهد على السائد وليس على حالات نادرة حتى لا يحدث تنافر بين ما يقدمه المسلسل والحقائق التاريخية المشتهرة عند أغلب الناس. إن مثل هذه الإشكالية وما سبق أن سردته من إشكاليات في الفقر السردي للقصة وتناقضاتها مع الواقع الطبيعي (مما أخرجها عن الواقعية إلى الخيال الذي هو خلاف غرضها)، والمشاهد المصطنعة التي يصعب هضمها، والشخصيات المفتعلة دون قيمة فنية أو قصصية، وكذلك المبالغة المكشوفة في تصوير العلاقات الشبابية/البناتية، كل ذلك جعل من المسلسل «أعشى» لا يكاد يبصر طريقه وهو ينشد أن يحوز رضا المشاهدين «كل المشاهدين» ويسجل قيمة في تاريخ الأدب والفن، ودعنا من جمهور السوشل ميديا الذين روجوا للمسلسل خاصة من البنات الذين جذبتهم شخصيات عزيزة وعواطف والجازي وعطوة وغيرهم، وما صنعه المسلسل من متعة بصرية أو دهشة مؤقتة في بعض المشاهد التي وجد فيها الشباب فرصة لصنع «ترند» مثل «سعد أنت في ذا»، فلا شك أن هذه محطات يتوقف عندها جمهور الشباب لكنها ليست مرتكزات جودة فنية ترتقي بالعمل وتخلده، ومثل هذه الترندات تخدع أبطال العمل وفريقه أنهم قدموا شيئاً متفرداً بينما هي فرحة الإنجاز العاجلة والنسبية (حسب ما عرض في نفس الفترة) والتي لا تصمد على الدوام لتنافس عبر تاريخ الفن كما فعلت مسلسلات أخرى خالدة ومتميزة أو أعمال درامية تبقى في الذاكرة على الدوام، ولا نشك أن عملاً بثقل شارع الأعشى من حيث فكرة النص وفترته الزمنية وأمكنته الرنانة لدى جمهور عريض يرشحه للوصول إلى ما أشرت إليه من مستوى متقدم، لكنما «العشى الليلي» الذي أصاب هذا العمل أدى به إلى أن يظل حبيس فترته وعملاً يحتفل به مؤقتاً ثم ينسى، بينما لم نتمكَّن مثلاً من نسيان «العاصوف» وخاصة حلقاته الأولى أو «طاش ما طاش» في نسخه الأولى ذات الطبيعة الاجتماعية البحتة وأمثالهما من المسلسلات الخالدة.
ما سبق يفسر للقارئ الكريم لماذا اخترت لهذه السلسلة عنوان «المسلسل الأعشى» بدلاً من «مسلسل شارع الأعشى»، وأود اليوم أن استكمل لكم مظاهر هذا العشى الليلي فلا زال في الموضوع بقية تجلي أعراض هذا العشى الليلي للمسلسل، وأبرزها الشخصية المحورية في القصة وهي البدوية وضحى، المرأة التي طرأت في حياة سكان شارع الأعشى فأثَّرت فيهم وتأثَّرت بهم والتي كان اختيار أن تكون هذه الشخصية «بدوية» غير موفق أبداً فلقد خلق هذا الاختيار تناقضات كثيرة طعنت في واقعية القصة بقوة نازفة وذلك من عدة أوجه لو تخيلنا أنها امرأة قروية بدلاً عن البدوية لانتفت كل تلك الأوجه والتي سأذكرها فيما يلي:
فأولاً لا يتصور أن تلجأ امرأة بدوية إلى حي يسكنه الحضر وتدع أحياء البدو وخصوصاً أن البدوي يجد غضاضة في ترك «ربعه» ولجوئه للحضري، وأرجو أن يستحضر القارئ معي أننا نتكلم عن بدوية قادمة من الصحراء وليست ممن يعيشون في الحاضرة فأصبحوا قريبين أكثر إلى أهل الحاضرة.. وهذا المعنى يجب استحضاره في كل النقاط التي سأذكرها بعد قليل فهو يزيدها وجاهة وقيمة وقوة.
ثانياً ظهرت هذه البدوية مشفقة جداً على أولادها بسيل جارف من العاطفة وتفاعلت وجدانياً بطريقة لا تتوقع ممن عاشت في صحراء جافة منذ طفولتها وفي شبابها وحتى أنجبت أربعة من الأولاد هم تقريباً في سن الزواج، كما ظهر أيضاً أولادها كشخصيات تتفاعل وجدانياً مع المواقف العاطفية بطريقة لا نألفها من ابن الصحراء فهذا ضاري تدمع عيناه وتلك مزنة تأسرها بسهولة وسرعة كلمات الشاب الفلسطيني الرقيقة فتبيع بها أهلها وعزتها وقيمتها البدوية.
ثالثاً تنازل وضحى بسهولة عن المبادئ البدوية والقبلية في تزويج غير البدوي (ولو كان سعودياً) وأقصد تزويج سعد «الحضري» بابنتها الجازي، بل إنها تنازلت أكثر عندما زوجت ابنتها مزنة لشاب فلسطيني!
رابعاً التقارب الكبير الذي حصل بين وضحى والجيران من أهل الحضر مثل أم إبراهيم وأبو إبراهيم لدرجة أن يصبحوا كالأهل هو أمر غير معتاد حتى عندما يجاور البدوي الحضري تظل هناك اختلافات اجتماعية مهمة في الطباع والعادات تفرض نفسها على هذه العلاقة ومع وجود علاقة الاحترام طبعاً والتقدير والتعاون، بيد أنها لا تصل إلى الدرجة التي رأيناها في هذا المسلسل، حيث إن أبا إبراهيم نفسه يعاملها كأخت يسر لها بما لا يسر به لزوجته!
أخيراً كما ذكرت تصوروا معي لو كانت هذه المرأة قروية أي أنها من نفس طباع وعادت أهل الحي لكنها قادمة من القرية فسوف يجعل ذلك من موقعها في القصة أكثر ملاءمة وسوف تنسجم كل النقاط التي ذكرتها قبل قليل بطريقة واقعية ومقبولة جداً مع أحداث القصة، خلافاً لما عليه الحال مع البدوية والتي كانت عبر كل القصة من أولها إلى ختامها خيطاً غير متمازج مع نسيج الرواية أفقدها طعم الواقعية ونزع عنها نكهة الجودة، بل من جهة أخرى كانت محل نقد مجمع عليه في عدم إتقان الممثلة للهجة البدوية، فلو أن رسم هذه الشخصية كان بسيدة قروية لتخلّص المسلسل من أزمة عدم إتقان اللهجة البدوية وكان أداء تلك الممثلة القديرة موفقاً ولم تظهر بالمظهر المتكلّف غير اللائق لسجلها التمثيلي، وللحديث بقية عن رسائل هذا المسلسل الأعشى.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً