د. فهد بن أحمد النغيمش
كلمة من حرفين تحتويان على معانٍ رقراقة، ومشاعر دفاقة. إنهما حرفان يلتذّ بهما اللسان، وتستريح لهما الأسماع، وتشتاق إليهما القلوب. تكوّنت من هذين الحرفين كلمة من أجمل كلمات المعجم العربي، فظهرت قليلة المبنى، عميقة المعنى ،تتنعم الشفتان بنطقها وتستلذ الأذان بسماعها.
هذه الكلمة ذات الحرفين كلمة جميلة، لكن للأسف هناك من كساها اليوم ثوبا ليس لها ودنس جمالها حين اختزلها البعض في مسلسلات هابطة تحكي عشقا ماجنا وخيانة فاضحة لا تليق بدين ولا بعرف ولا بتقاليد، وآخرون اتخذوها رمزا للغزل الفاحش والروايات الهابطة بعيدة عن الأدب والأخلاق وقيم المجتمع الإسلامي الذي نادى بالحب وكرّس مفهومه وحث عليه بين الأب وأبنائه وبين أفراد الأسرة وبين الزوج وزوجته وبين الأخ وأخيه، حتى أنه رتب على الحب في الله أجورا عظيمة فقال صلى الله عليه وسلم: (المتحابون في جلالي على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء).
(أحبك) اختفت هذه الكلمة من الشفاه وعدها البعض قلة في الأدب ونقصا من العقل أن تقال لمن هو يستحقها وهو أهل لها!
والعجيب أن القرآن والسنة حفلت بذكر هذه اللفظة مرات ومرات ونحن - المسلمين- أهل الحب والرحمة وأهل الود والعطف والشفقة والحب فهي أساس ركين في ديننا ومنهج جميل في شرعنا، فلماذا اختفت من قاموسنا وألغيت من تعاملاتنا وأحاديثنا ومشاعرنا؟
وسؤالنا قائم: أين اختفت كلمة الحب بيننا؟
سيرة خير البشرية حفلت بالعديد من المواقف التي أبانت وأوضحت كمية الحب الكبيرة التي تعامل بها مع أصحابه وزوجاته وحتى مع الحيوانات والجمادات والصغار.
كانت الحياة حياة بلا حُبٍ حياةٌ بائسةٌ يابسةٌ فجاءَ نبيُّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعادَ الحُبَّ إلى الحياةِ، وأعادَ الحياةَ إلى الحُبِ. أعادَ الحُبَّ إلى الزوجةِ فجعلَهُ عبادةً: (حَتَى اللُقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلى فيِّ امْرَأتِك) وإلى الأطفالِ فجعلَهُ رحمةً: (إِنَّها رَحْمة وإِنَّما يَرْحمُ اللهُ مِنْ عِبادِه الرُحَماءَ) وإلى الأُخُوَّةِ فجعلهَا إيماناً: (لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا).
بل أشاعَ الحُبَ حتى في الجماداتِ، وتَبادَلَ الحُبَ معها، فقالَ عن جبلِ أُحُدٍ: (هَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّه).
ثم استنبتَ ذلك الحُبَ في تلك البيئةِ الجافةِ الجافيةِ، فاهتزتْ وربَتْ، وأنبتَتْ من كلِ زوجٍ بهيجٍ. فجعلَ الصحابةَ يتنفسونَ الحُبَ مع الهواءِ الذي يستنشقونَه، ومع الماءِ الذي يشربونَه!
كانَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يُسرِجُ قناديلَ الحُبِ في كلِ نواحِي الحياةِ، فهوَ الذي إذا دخلَ بيتَه تعاطَى الحبَّ الزوجيَّ في أجملِ صُوَرِهِ، فكان يتحرَّى أن يلاقِيَ فمُهُ الطيبُ موضعَ فمِها بعدَ أن شربَتْ أو أكلَتْ، وبذلك تحوَّلَتْ حجراتُهُ الصغيرةُ إلى خزائنَ كبيرةٍ للحُبِ.
وكانَ يَعتبِرُ الحُبَّ الزوجيَ المتبادَلَ رزقاً ونعمةً باطنةً، حتى لمن ماتَ من زوجاتِهِ، فها هوَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يتحدثُ عن خديجةَ -رضيَ اللهُ عنها- بعدَ وفاتِها بسنينَ طِوالٍ فيقولُ: (إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا)، يا لَجَمالِ وصفِ الحُبِ بأنه رِزقٌ كريمٌ من ربِّهِ.
وبدلَ أن يكونَ الحُبُّ الزوجيُّ شعوراً يُستَرُ ولا يُشهَرُ؛ إذا به يَستعلِنُ به، ولا يُدارِي به، فتراهُ يُجيبُ عمرَو بنَ العاصِ وقد سألَهُ: مَن أَحبُّ الناسِ إليكَ؟ فيأتيْ الجوابُ سريعاً (عَائِشَةُ).
يقرؤونَ الحُبَ النبويَ الأبويَ يتدفّقُ في مشهدِ عناقِهِ لابنِ ابنتهِ الحسنِ، فجعلَ يَشمُّهُ ويُقبِّلُهُ ويقولُ: (اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ).
كان الحُبُ يَسرِيْ في حياتِهِم وهو يَسكبُهُ في آذانِهِم، يأخذُ بيدِ معاذٍ فيقولُ له: (يَا مُعَاذُ، وَالله إِنِّي لَأُحِبُّكَ). فيقولُ معاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ.
وكانَ يَنثرُ الحُبَّ في طرقاتِ المدينةِ. مرَّ مرةً، فتلقَّاهُ جوارِيْ بنِي النجارِ من الأنصارِ، وجعلْنَ يَضربْنَ بالدُّفوفِ ويَتغنَّينَ ويَقُلْنَ:
نحنُ جَوارٍ من بني النَّجَّـــارِ
يا حبَّــذا محمدٌ من جـــارِ
فقالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: (اللهُ يَعْلَمُ أنَّ قَلْبِي يُحِبُّكُنَّ).
لقد كانَ يأمرُ بتَعاطِي الحُبِّ والإعلانِ به؛ فقد جاءَهُ رجلٌ فسلَّمَ عليهِ ثم وَلَّى. فقالَ أحدُ أصحابِهِ: يا رسولَ اللهِ! واللهِ إني لأُحِبُ هذا. فقالَ: «هَلْ أَعْلَمتَهُ؟». قالَ: لا، قالَ: «قُمْ فَأَعْلِمْهُ». فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَذَا، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي الله. قَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَه وكانَ يقولُ: (إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ).
والسؤال: لماذا سادت بين بعضنا البعض أنواع الكره والبغضاء وانعدمت لدى البعض أنواع الحب لله وفي الله دون مصلحة ترتجى أو هدف دنيوي يبتغى!
أين معاني الحب التي أقرها الإسلام بل جعلها من لوازم الايمان وأقسم عليها رسول البشرية صلوات ربي وسلامه عليه فقال (والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ).
هل يكفي أحدنا أن يتغنى بكلمات الحب لأخيه المسلم في رسائله وحديثه وهو يحيك له أنواع من المكر وأنواع من الخديعة والغش والتدليس، بل لم يسلم عرضه من نهشه وسبه وغيبته؟
هل وجد الحب عند أب لا يعرف معنى للشفقة او العطف مع أولاده فهو دائم الصراخ والتعنيف والتقزيم والتهزئة؟ هل وجد الحب بين الأزواجين الذين قضوا شطرا من أعمارهم وأنجبوا العديد من الأبناء، ومع ذلك في شجار دائم وسباب وطلاق ولم تنطق شفاههم بكلمة حب أو فعالهم بمعنى الحب والمودة وكأنها عيب وتنازل من كبريائهم! هل وجد الحب بين مسلم يظلم أخاه المسلم ويأكل حقه ويبخسه ماله؟ ضاع الحب بيننا كمسلمين وضاعت معه معانيه التي إن ظهرت ساد الوئام والسلام وأصبح المجتمع يعيش في ظلاله!
ما وجدت البشرية أعظم ولا أصدق حباً من حب الأم لوليدها وحب الأب لأبنائه، ضحوا بجميع ما يملكون لأجلك ولسعادتك حتى وإن عقوهم أو رفعوا أصواتهم أو هجروهم فهو الحب الذي لا يحيد ولا ينقص رغم العواصف وتقادم الأزمان، فبادلوهم بالحب وردوا إليهم شيئا ولو يسيرا من الحب الذي غمروكم به أطفالا وكبارا، كافئوهم بالبر وأحسنوا اليهم رحمنا الله وإياكم.