د.محمد بن عبدالرحمن البشر
المتنبي غني عن التعريف، فالمعروف لا يعرف، والصاحب بن عباد أيضاً معروف عند أهل العلم والأدب والشعر والسياسة، فهو وزير في الدولة البويهية، ووالده وزير وجده أيضاً، وعاش في بيت عز وشرف وعلم، تتلمذ على يد الوزير ابن العميد العالم المعروف، وأصبح أحد كتابه، ثم وزيرا من بعده، وسمي بالصاحب لمصاحبته الملك مؤيد الدولة البويهي منذ الصبا، ثم أصبح وزيره، وأيضاً وزيرا للملك فخر الدولة، ويلقب أيضاً كافي الكفاه، قال عنه ابن خلكان: نادرة الدهر، وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه. وقال عنه الثعالبي: ليست لدي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة قدره وشأنه في الجود والكرم، هو صدر المشرق، وعزة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ولأجله ألف أبو منصور الثعالبي يتيمة الدهر التي جمع فيها شعر شعراء عصره، ويكفينا من إرثه الأدبي القاموس المحيط في اللغة، ولأجله ومنه حفظ لنا الشعر واللغة، ومدحه خمسمائة شاعر، عدا المتنبي المعاصر له.
لقد عرض في شبابه على المتنبي الذي يكبره سناً وشهرة، أن يمدحه ويشاطره نصف ماله، وهو بلاشك مال كثير لأنه كان سليل وزراء، وصاحب ملك، فأبى المتنبي، وقال مترفعاً عنه ما معناه: يذكر أن في الري غليماً يريدني ان أمدحه ويشاطرني نصف ماله، ولهذا بقي الصاحب حاقداً عليه، ومن المعروف أن المتنبي لا يمدح إلا الملوك ما عدا قصيدة لسبب معين، ومن جبلة المتنبي الكبر والتعالي، حتى إنه لا يرى الناس إلا محتقرين في همته كشعرة في مرفقه حسب شطر بيت قاله، كما أنه طموح وهجاء، أدى به هجاؤه إلى القتل على يد أفراد من قبيلة بني ضبة.
ألف الصاحب ابن عباد كتاباً ينقد فيه شعر المتنبي، وسبقه إلى ذلك كثير من النقاد، منهم أستاذه ابن العميد الذي كان أكثر إنصافاً من الصاحب، وقد صدق المتنبي حين قال:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
وقد منع الصاحب من هم تحت إمرته وسلطته أن يستشهدوا بشعر المتنبي في خطبهم ورسائلهم، فلما ماتت أخت الصاحب بن عباد، ورد إليه رسائل عزاء من الأقاليم الأخرى كلها تبدأ ببيتين من شعر المتنبي في رثاء خولة أخت سيف الدولة يقول فيها:
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً
شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
فقال الصاحب: هذا رجل كالشمس أنشدوا أشعاره.
وفي تتبع الصاحب بن عباد لما يراه من سقطات المتنبي، نقده بيتا للمتنبي يقول فيه:
إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها
لَأَعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِها
فقال الصاحب: كثير من العهر أحسن من عفافه هذا، وبعض منتقدي الصاحب يقولون: إن المتنبي ذكر سرابيلها أي قميصها، لكن الصاحب تعمد وضع سراويلها للتشنيع به. وأقول هذا حال الأقران في كل زمان ومكان، سواء علا شأن المرء أو قصر، ومآل الناس إلى الفناء، وبقي ما حبر في القرطاس.