د. داليا عبدالله العمر
«من اتكل على نفسه كلَّ، ومن اتكل على ماله قَلّ، ومن اتكل على غيره ذَلّ، ومن اتكل على الله لا كل ولا قل ولا ذل.» بهذه العبارة البليغة التي تختصر فلسفة الحياة الإيمانية، نبدأ رحلتنا في فهم قيمة التوكل على الله، تلك القيمة التي ما إن استقرت في قلب عبد إلا وهُدي واطمأن وارتقى.
التوكل هو تفويض الأمور لله مع بذل الجهد والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3]. والتوكل صفة من صفات المؤمنين الخُلّص، الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، وقال في موضع آخر: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 122].
النبي - صلى الله عليه وسلم- جسّد التوكل العملي حين قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا.» فالطير تخرج وتسعى وتأخذ بالأسباب، لكنها في يقينها متوكلة على رزق الله، فترجع شبعى مطمئنة.
ومنزلة التوكل في الدين عظيمة، بل إن التوكل نصف الدين والنصف الآخر الإنابة، فالدين عبادة واستعانة؛ والتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة. لذلك فسر العلماء التوكل بأنه اعتماد القلب على الله، لا اللسان فحسب، فكم من قائل: «توكلت على الله» وقلبه معلق بغيره، وكم من ساكن صامت قلبه يردد بحاله: «عليك توكلت يا رب».
العلامة السعدي - رحمه الله - بيّن أن التوكل هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته به، وحسن ظنه بحصول المطلوب، لأنه العزيز الرحيم، القادر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده، برحمةٍ منه.
والتوحيد والتوكل صنوان لا يفترقان، فكلما رسخ القلب في التوحيد، صحّ التوكل. يقول ابن القيم: «لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، بل حقيقة التوكل توحيد القلب.» فمن عرف الله بأسمائه وصفاته: قدرته، قيوميته، علمه، مشيئته، رحمته، علم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، فلا يلتفت القلب إلى سواه.
ويكفي أن نتأمل قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، فهل نطمئن لكفاية أحد كما نطمئن لكفاية الله؟ هو من يملك خزائن السموات والأرض، وهو القابض الباسط، الرافع الخافض، المعز المذل، الشافي والمعافي.
التوكل إذن لا يعني ترك العمل أو الجمود، بل هو حركة ووعي، يجمع بين الأخذ بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب. وقد يتساءل البعض: «هل التفكير في أمرٍ كالسفر، أو الانشغال بمرضٍ مزمن، ينافي التوكل؟» فنقول: إذا كان هذا التفكير سلبيًا، مصحوبًا بقلق وهمّ وتوقّعٍ دائم للسوء، فهو من وساوس الشيطان. أما إذا كان تفكيرًا إيجابيًا، قائمًا على حسن الظن بالله، ويقود صاحبه للعمل الصالح والسعي في الأسباب، فهو من أصدق صور التوكل المحمود الذي يحبه الله.
قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَـنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 10]
وفي آية أخرى: (الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يعِدُكُم مَّغْفِرَة مِّنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم) [البقرة: 268]. فالشيطان يريدنا أن نعيش في قلق دائم من المستقبل، والله يريدنا أن نطمئن إلى وعده.
وإذا شعرتَ أن وساوس الشيطان بدأت تتسلل إلى قلبك، فاستعذ بالله، كما قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36]. وكرّر لنفسك دائمًا: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟).
ومن أسمى صور التوكل الدعاء، فهو تسليم كامل لله. تأملوا دعاء النبي : «اللهم إني توكلت عليك، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين.» هذا هو التوكل الحقيقي: ألا تعتمد على نفسك، بل على من خلقها.
ولكي نفرّق بوضوح بين التوكل والتواكل، فإن التوكل هو العمل مع الاعتماد على الله، أما التواكل فهو ترك العمل بحجة أن الله هو المدبر، وهذا جهل. وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في التوكل حين هاجر من مكة إلى المدينة، فقد أخذ بالأسباب، وأعد العدّة، وتخفى، واستعان بالدليل، ومع ذلك قلبه كان معلقًا بالله.
قال ابن القيم: «التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، بل لا يصح التوكل إلا مع القيام بها.» فترك الأسباب جهل، والاعتماد عليها ضلال ،التوكل الحق أن تعمل وتأخذ بالأسباب، ثم توكل قلبك على الله، أنه وحده منجح الأسباب.
لكن، ماذا عن من يعتمد على الأسباب فقط؟ كأن يظن أن الطبيب سيشفيه، أو أن المال سينقذه؟ هذه النظرة قد تخرجه من دائرة التوكل، إلى دائرة الضلال، لأن التوكل الحقيقي يجمع بين مقتضى التوحيد والعقل والشرع، كما قال العلماء.
أما مسألة «الاعتماد على النفس»، فهي لا تعني الاستغناء عن الله، بل كما قال ابن القيم: «من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله، لا بها.» فلا حرج أن تعمل بنفسك، لكن لا تعتمد عليها في قلبك، اجعل اعتمادك على الله.
الغرور بالنفس والثقة الزائدة بالقدرات ليس من التوكل في شيء، بل هي من الغفلة، وقد قال السعدي: «العبد لا ينبغي له أن يتكل على نفسه طرفة عين، بل لا يزال مستعينًا بربه، متوكلًا عليه، سائلًا له التوفيق.» وتذكر دائمًا: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) [هود: 88].
أما عن التوكل في شؤون الحياة، فليس محصورًا على الرزق أو الصحة، بل يمتد إلى الدين نفسه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه، ودينه، وحفظ لسانه، وإرادته، وهذا أهم من توكله في مصالح دنياه.» ولهذا نردد في كل صلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهي خلاصة الدين: عبادة وتوكل.
روح التوكل تتجلى في «التفويض»، وهو أن يلقي العبد أمره كله إلى الله باختيار، لا اضطرار. ومن ثمرات التوكل الرضا، فالذي يوكل أمره لله لا يسخط، لأنه يعلم أن ما اختاره الله له خير مما اختاره لنفسه.
ويكفي أن نتأمل سير الأنبياء عليهم السلام، لنرى كيف جسدوا التوكل في أقصى صوره:
* إبراهيم عليه السلام قال عند إلقائه في النار: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا.
* موسى عليه السلام عند البحر قال: «إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ» [الشعراء: 62].
* يوسف عليه السلام قال في عز محنته: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ» [يوسف: 100].
* والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - طمأن صاحبه في الغار: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» [التوبة: 40].
أما أقوال العلماء، فهي كافية لتعزيز اليقين:
* ابن القيم: «على قدر حسن ظنك بالله ورجائك له، يكون توكلك عليه.»
* ابن تيمية: «التوكل يجلب القوة والسكينة.»
* الغزالي: «التوكل يدفع القلق.»
* الفخر الرازي: «التوكل أصل من أصول الخير.»
* بشر الحافي: «من قال توكلت على الله، وهو ساخط، فهو يكذب على الله.»
* يحيى بن معاذ: «إذا رضي العبد بالله وكيلاً، فهو المتوكل الحقيقي.»
وللعلم والدراسات الحديثة رأي أيضًا:
* دراسة من جامعة ماليزيا: التوكل يقلل من معدلات الاكتئاب، ويزيد الرضا بالحياة.
* دراسة من كتاب «الإيمان والصحة النفسية»: الإيمان والتوكل يخفضان هرمون التوتر ويحسنان صحة القلب.
* دراسة من جامعة القاهرة: المواظبة على الدعاء تحسن المزاج وتزيد القدرة على مواجهة الأزمات.
وفي الختام، نسأل الله أن يجعلنا من المتوكلين عليه، الراجين رحمته، المقبلين عليه بكل قلوبنا وأرواحنا، فنكون ممن قال فيهم: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».
اللهم اجعلنا من المتوكلين عليك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، واغفر لنا وارحمنا إنك على كل شيء قدير.