سهام القحطاني
يقول أبو العلاء المعري:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي
نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ
في البدء يعلن المعري رفضه وتمرده على كل من له سابق دلالي!
فـ «هذا الهدم في محتواه الاصطلاحي والفكري» جعل المعري يرفع راية الاتجاه العقلي في عصره، من خلال آلية الشك المعرفي في نظام الثنائيات كونها مسطرة قياس للثوابت.
وإذا توقفنا عند أبي العلاء المعريّ سنرى أن مفهومه «للشك المعرفي للثنائيات» يتجلى في نمطية الدلالة كونها معاني غير ملزمة للإيمان، وبذلك فهي لا تمثل حقيقة لأنها تمثل المجال الحسي وليس الفكري (جوهر للدلالة في ذاتها)، وبما أن المعاني هي تمثيلات فهي ليست ملزمة التصديق، باعتبار أن الجوهر المتمثل في العقل هو مصدر خلق المعاني وصيغها.
وبذلك فالمعري يُعتبر من رواد «الاتجاه العقلي»، فليست الحقيقة عنده قائمة على ما نراه أو نسمعه باعتباره مصدر جاهزيته، بل ما يتوافق مع الاستنباط والاستنتاج الفكري عبر سلاسل أدوات العقل الذي يعتبره بوصلته في الحياة! ويجعلها هي مقياس المعرفة وشاهد حق فيقول:
إِنَّ التَجارُبَ طَيرٌ تَألَفُ الخَمَرا
يَصيدُها مَن أَفادَ اللُبَّ وَالعُمرا
ويرى أن العقل هو المقياس لحقيقة الدلالات وكل أثر سابق لدلالة هو معرض للشكية احتمالات الكذب والصدق، فالعقل هو مرآة حقيقة الأشياء ومصدرها الأول، فيقول:
أَرى اللُبَّ مِرآةَ اللَبيبِ وَمَن يَكُن
مَرائِيَّهُ الإِخوانُ يَصدُق وَيَكذِبِ
ولا يربط المعري حقيقة الدلالة فقط بالعقل والتحرر من بعض المقولات البشرية المتوارثة كونها غير مطلقة الصدق، بل يربطها أيضاً بحقيقة «الخير والشر»، وهنا أيضا يتمرد على ارتباط الخير والشر بالمقولات البشرية المتوارثة، فما استجمله العقل فهو خير وما استقبحه فهو شرّ، فيقول:
عليك العقل وافعل ما رآه
جميلًا فهو مُشتَارُ الشِّوارِ
وسلوك المعري أدخله في دائرة الصراع مع معاصريه، ليكون من الفئة المارقة فقالوا عنه:
كلبٌ عوى بمعرةِ النّعمان
لمّا خلا عن ربقـةِ الإيمان
يُقدم المعري العقل على غيره من المصادر كمصدر للمعرفة سواء في تكوينها أو إعادة تدويره بالشك والنقد، وهو في ذلك يُظهر تأثره بالفلسفة اليونانية التي تعتبر العقل هو مصدر الحقيقة والفكر، ولذا يعتبر المعري العقل هو مصدر للحق.
ولا يمكن أن نعزل خصوصية حالة المعري من انتهاجه للعقليّة الفكرية؛ فحاصل عدم البصرية هي «السواء» تساوي الدلالات بما فيها إنكار الخصائص كونها غائباً، ومن هنا يتأسس العقل البرهاني المعتمد على جوهر الأشياء، ليتفوق على كل عقل مرتبط بمعرفة سابقة، وباعتباره عاقلاً في نفسه لذاته لا سابق له.
ومن أهم خصائص الاتجاه العقلي عند المعريّ: صفريّة المصدر وبذلك فهو يتحرر من كل مصدر سواء بالشك أو الرفض.
إن مادية آلية القياس والإثبات بالتجربة والمقارنة هي الجدلية الثنائية التي رسخ أسسها في رسالة الغفران والاستغراق في الاستدلال المنطقي الذي أوقعه في كثير من المخالفات الدينية والعياذ بالله، ثم التعمق في تفكيك البنية المعرفية للمعطيات شاملاً الأصل والعارض.
ومع أن المعري استطاع أن يترك بصمة في مجال الاتجاه العقلي إلا أنه لم يستطع أن يرتقي به إلى مكانة المنهج؛ لتأثره بالمسار الجدلي للمعتزلة حيناً والصوفيّة حينا، وهذا التذبذب المرجعي جعله عاجزاً عن تأسيس قالب معرفي ثابت المقاييس، وقبلها النظرة التشاؤميّة التي كانت تدفعه إلى «هدم أساسيات المعرفة» دون تجديدها، فتجديد المعرفة ينطلق أولاً من محبة الحياة والتفاؤل الذي يجعل الغاية من أي تجديد فكري أو علمي إسعاد الإنسانية.