د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
يُعدُّ اتساق المرجعية النظرية من القضايا المحورية في بنية البحث العلمي، ولا سيما في الدراسات النقدية والأدبية التي تتكئ على مناهج متباينة في رؤاها وفلسفاتها ومفاهيمها. ويقصد باتساق المرجعية النظرية مدى التماسك والتناسق بين المنهج المعلن والمنطلقات الفلسفية التي يستند إليها الباحث، والمفاهيم التي يستخدمها، والإجراءات التي يتّبعها في التحليل.، وذلك أنَّ «اتساق المرجعية النظرية» تسويغٌ معرفيٌّ لاعتقادات الباحث، يقول (دورتي): «لا شيء يُعدُّ تسويغًا، اللهم إلا عن طريق الرجوع إلى ما نقبله بالفعل، ولا توجد طريقة للإفلات من اعتقاداتنا ولغتنا لكي نجد معيارًا ما غير الاتساق». (دورتي، ريتشارد. الفلسفة ومرآة الطبيعة، ص178).
وسبب الحديث عن هذا أنَّ بعض الباحثين يقعُ في فخاخٍ متعددة بدءًا من فخِّ الوهم بأنَّ المناهج البحثية والنقدية في الأدب والنقد والبلاغة مفصولة عن اعتقادات الباحث الكبرى وانتهاءً بفخِّ تفلُّتِ المنهجِ الذي ارتضاه الباحثُ نظامًا معرفيًّا أو أداةً تحليلية غير خاليةٍ من تسويغٍ معرفيٍّ يكشف اعتقاداتٍ ثاويةٍ في عمق الباحث أو مفصحةٍ عن جهل فاضحٍ بالذات أولا ثم في صنعة الكتابة ثانيًا.
و(اتّساق المرجعيّة النظريَّة) ليس شكلاً في البحث، بل هو مضمونُ العقل الباحث؛ لأنَّ بعض الباحثين في مسالك الكتابة ومساربها يتفلَّتُ منهم المنهج، وقد يتداخلُ مع غيره تداخلًا يمزجه فيتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وقد لا يمزجه لكنه يبعثُ في النفس تأبِّيًا منه، وحينئذٍ تقعُ معضلةٌ تُفقِدُ البحثَ قيمته المعرفيّة.
ومن الأمور المفضية إلى اختلال (المرجعية النّظريَّة) غيابُ الوعي بالمبادئ الفلسفية الخاصة بالمناهج النقديّة، والتفريطُ بفهم مهاداتها النظرية، حتى إنَّ الباحث يقدِّمُ دراسةً (بنيوية) أو (تفكيكية) لا يؤمنُ هو بمنطلقات هذين المنهجين لتعارضها مع ما يعتقدهُ ويؤمنُ به.
ومن الجيّد أنْ يهتمَّ الباحثُ باتساق المرجعيَّة النظرية تطويرًا وتطبيقًا من خلال الانتباه إلى ما يلي:
* ملاحظة التضاد بين المناهج، والنَّأي بالبحث عن الخلط بينها؛ لأنَّ ذلك يشعر بتمييز دقيق بينها، وفهمٍ عميقٍ لمبادئها الفلسفية، وليس مقبولًا أنْ يتحرَّك الباحثون نحو إعادةِ دراسة التراث بمناهج أقلُّ ما يقال فيها أنَّها لا تتفق معه، بل بعضها يناقضه.
*وقد سبقنا إلى هذا النوع من الدراسة أدباء ونقَّاد وقعوا في وهم المناهج النقدية الحديثة، وبنوا عليها ما قدموا من دراسات، ثم نفضوا منها اليد إلى غيرها أو رضوا من الغنيمة بالإيابِ، والواقع شاهدٌ عريض.
* التحرّي قي تدقيق التنسيبِ الفلسفي للمفاهيم، فلا يستعملُ مصطلحٌ لا ينتمي للمنهج، ولا يتوافق مع (الموضع المعرفيِّ) للباحث؛ إذ الكلمة التي ينطقها الباحث في سياق البحث العلمي ليست الكلمة التي يقولها في أطُرِ الحياةِ الأخرى؛ لأنَّ الكلمة في سياق البحث العلمي تعني أنَّ الكلمة برهانُ مفهومٍ يؤمن به الباحث، ويتَّسِقُ مع رؤيته العلمية ومرجعه النظريّ.
*النأي عن دمج المناهجِ بلا مسوِّغٍ مقنعٍ ضابطٍ لحدود الدمج؛ لأنَّ التفريط بهذا يصمُ البحث والباحث بالاعتباطيَّة، ولا يعدُّ الدمج المنهجيُّ تكاملًا في كلِّ الأحوال، بل -ربما- أفضى إلى تناقضٍ وتضادٍّ حادّ.
*الابتعادُ عن التوتر المعرفيِّ بالجمع بين (منطق القديم) و(منطق الحديث) دون إيجاد صيغةٍ مقبولة لدمجهما، ومما يقعُ فيه الباحثون اليوم مما هو من (التوتر المعرفيِّ) الضَّارِّ باتساق المرجعيَّةِ النظريَّة، وهو كذلك مُفتِّتٌ للتصورات الحاكمة على الموضع المعرفيِّ ما نجده من دراسة مدونة قديمة وفق منهج نقديٍّ غربيٍّ حداثيٍّ أو فلسفةٍ لا توافق المدونةَ زمنًا ولا مكانًا ولا قيمًا كالذي يدرس -مثلا- سورة الأنبياء وفق منهج (نظريات التلقي والقراءة)، أو يدرسُ الحديث النَّبويَّ وفق منطق الحجاج الغربيِّ، وهذا مكمنُ التوتر المعرفيِّ؛ إذ يقعُ في غربةِ السياق الثقافي.
*تمتين المنهج بإفراده أو تقويةِ وجوده في البحث، وذلك بالرجوع إلى مصادره، واستعمال مفاهيمه وكلماته المفتاحيّة، والمقصود هنا أنه لا يصلح أنْ يكون المنهج في البحث نفسيًّا ويزاحمه المنهج التاريخيُّ بإجراءاته ومفاهيمه وكلماته المفتاحية، حتى يخفتَ وهجُ المنهج الذي أُسِّسَتْ عليه الفكرة البحثيّة.
ومن العلامات المهمة في كشف ضعف التمتين المنهجيِّ أنْ تجد الاقتباسات قد كثرتْ من كتبٍ ودراساتٍ كُتِبَتْ وفق رؤية المنهج التاريخي في بحثٍ تأسس منهجه على غير المنهج الذي كثرتْ الاقتباسات من كتبه، أو انتشرت مفاهيمه وكلماته المفتاحية في صفحات البحث، وهذا إنما يدلُّ على تشتُّتٍ في النهج، وضبابية فِي الرؤية، وغيابٍ للشخصيَّة العلمية.
ونخلصُ مما سبق إلى أنَّ شخصيّة الباحث وشخصيَّة البحث العلمي وقيمته المعرفية التي يسأ لُ عنها بـ(ما الإضافة العلمية؟) تتحقق كلها عندما يدرك الباحث أنَّ (اتساق المرجعيَّة النظرية) ركيزةٌ من ركائز المساءلة المنهجيَّة، تساعده -عند التزامها- على مسلكٍ ينسجمُ مع إيمانه ورغبته في تحقيق الإضافةِ العلميّة النافعة في أبحاثه.