د. نجوى الكحلوت
في عالم يضيق بالمنطق والرتابة اليومية، يظهر الأدب الغرائبي والعجائبي كنافذة نحو اللامألوف، حيث تتوارى الحدود بين الحقيقة والخيال، ويصبح المستحيل احتمالاً قائمًا. هو أدب لا يسعى فقط لسرد قصة، وإنما يفتح أبواب التساؤل والدهشة في ذهن القارئ، ويجعله يرى العالم من زوايا غير مطروقة. لست من هواة هذا اللون الأدبي إلا أن الكتابة عنه أضحت ضرورة لإجلاء بعض الحقائق والآراء.
فما هو الأدب الغرائبي والعجائبي؟
يُعد الأدب العجائبي أدبًا يتجاوز قوانين الطبيعة والواقع، حيث تُعرض أحداث خارقة لا تخضع للمنطق، كالسحر، وتحول الكائنات، والرحلات عبر الزمن. الشخصيات في هذا النوع تتعامل مع هذه الظواهر بوصفها جزءًا طبيعيًا من عالمها، كما نراه في الأساطير والحكايات الشعبية.
أما الغرائبي، فهو أكثر التباسًا وتعقيدًا؛ حيث يُقدَّم الحدث الغريب دون تفسير قاطع، تاركًا القارئ في حالة من التردد بين تصديقه كحقيقة أو رفضه كخيال. إنه الأدب الذي يتسلَّل إلى الواقع، فيشوِّهه بلطف، ويزرع فيه عنصرًا غامضًا يفتح باب التأويل على مصراعيه.
والفرق بين الغرائبي والعجائبي أن الثاني: يوقن بوجود عالم خارق وله منطقه الخاص، والأول يقود دفة الشك والحيرة أمام حدث غير مفسَّر، دون قطيعة تامة مع الواقع، وهذا الفرق ليس حادًا دائمًا، فقد يبدأ النص غرائبيًا ثم ينقلب إلى العجائبي أو العكس، بحسب تطور السرد وتفاعل الشخصيات.
يُعد هذا اللون من الأدب أداة قوية للتعبير عن أعماق النفس، وعن الأزمات الاجتماعية والسياسية والروحية. فبعيدًا عن كونه «هروبًا من الواقع»، هو في كثير من الأحيان مواجهة له من زاوية رمزية، تجعل القارئ يعيد التفكير في معاييره، ويكتشف خبايا جديدة في ذاته ومجتمعه، ويوفر مساحة رحبة للخيال، ويساهم في إثراء التجربة الجمالية، خاصة لدى القارئ المعاصر المتعطش لنصوص تتحدى المألوف وتمنحه طعم الدهشة والاكتشاف.
في العقود الأخيرة، شهد الأدب العربي انفتاحًا على هذه الأشكال السردية، وبرز عدد من الكتَّاب الذين دمجوا الغرائبي والعجائبي في رواياتهم وقصصهم، في محاولة لتقديم تجربة مختلفة ومعاصرة، حيث تماهى الأسطوري مع العلمي والتاريخي في إطار من التشويق والغرابة عند أحمد خالد توفيق في سلسلة ما وراء الطبيعة، وامتزجت العوالم الروحية والرمزية مع الواقع الحسي لمكة عند رجاء عالم في طوق الحمام، مما أضفى على النص طابعًا غرائبيًا متداخلاً، وقد وظّف محمد حسن علوان في موت صغير الروح الصوفية والحضور الماورائي بطريقة أقرب للعجائبي، تربط بين التاريخ والبعد الفلسفي، واستخدم يوسف المحيميد وإبراهيم الكوني، عناصر ميتافيزيقية وأساطير صحراوية تسكنها العزلة والرموز الغامضة.
وتوسع أسامة المسلم في استعمال الأدب العجائبي والفانتازي، حيث صاغ في رواياته (خوف وصخب الخسيف) عوالم مملوءة بالجنّ، والأرواح، والأساطير الشعبية، بأسلوب سردي سلس جذب جمهورًا واسعًا من مختلف الفئات، وخاصة الشباب.
وما ينبغي التنبيه إليه هو: أن الأدب الغرائبي والعجائبي ليس لعبة لغوية أو هروب من الواقع، إنما محاولة لاستيعاب الواقع بوسائل تتجاوز المباشر والمألوف. هو أدب يمنحنا مساحة لنتأمل، لنتساءل، لنحلم، وفي زمن تزداد فيه الحاجة إلى ما يحفّز الخيال ويخاطب الأعماق، يصبح هذا الأدب ضرورة تستخدم بحذر استجابة إنسانية رفيعة لفوضى العالم من حولنا.
** **
- جامعة الملك سعود