حامد أحمد الشريف
القراءة في أصلها متعة وشهوة، كبقية شهوات الإنسان، وبالتالي يمكننا النظرُ للمكتوب من خلال رغباتنا الفكرية والنفسية، وذائقتنا، ويمكننا استفتاءُ انطباعاتنا المجردة البعيدة عن أي تأطير فني، وعدم الاحتكام إليها في نظرتنا وتقييمنا للأعمال الأدبية؛ طالما ابتعدنا عن تجنيس العمل والنظر إليه كمصنف أدبي يقارن بصويحباته، وإن كان يشترط لذلك ما يشترط لبقية المتع الإنسانية من اشتراطات عامة، كديمومة الانبهار والتعلق، والابتعاد عن السطحية، وامتداد الأثر الباقي الدافع للتفكير والتحليل والاستنتاج، وهذه لعمري من الصعوبة بمكان، إذ قد لا تجدها في الأعمال المتخصصة والمجنسة والمستوفية لكل المعايير الفنية الشكلية، كالروايات وأدب السِّيَر والقصص القصيرة، وقبل كل ذلك في الشعر بكل أشكاله وألوانه.
خطر لي ذلك وأنا أنتهي من مطالعة كتاب «العصفور الحافي» للكاتب المبدع الجميل الأستاذ بخيت طالع الزهراني، وبدا كأنه دوَّنَ كتابَه لإيصال هذا المعنى، وكسر حاجز قواعد التجنيس الأدبي، أي أنه أراد من خلاله دفعنا للاهتمام بذائقتنا، والوثوق فيها أكثر من اهتمامنا بالتأصيل الفني، والاحتكام لقواعدِ ومعاييرِ النقدِ المتفقِ عليها، وعدم الانشغال بأمور متخصصة قد تفقدنا متعة القراءة. وبالمناسبة يقع الكتاب في ثلاثمائة وخمس صفحات من القطع المتوسط، صادر عن «دار ريادة» في العام 1446هـ، ولكم تمنيت لو أن المؤلف لم يدرجه ضمن أي نوع من أنواع الكتابات السردية وتركه معلقًا، ولم يُبوب ضمن أدب السِّيَر حتى وإن رأى فيه من يطالعه أنه سيرة الكاتب، بكل تفصيلاتها وقرأه من هذه الزاوية، فالكتاب في ظني يحمل قيمة قرائية معينة، أو شذرات من خواطر وتجارب شخصية مضمخة بأفكار وفلسفات يمكن نقلها للقارئ من دون إشغاله بالتصنيف والتبويب. وتتبع العناصر الفنية التي قد تقف حائلًا دون متعة القراءة.
إن هذا الكتاب كما أسلفت؛ يستحق أن يكون محطة للقراءة والحديث عنه رغم الملاحظات الفنية التي لا ينبغي إغفالها وعدم ذكرها في ورقة منشورة كهذه، وسأعود للحديث عنها لاحقًا بعد الانتهاء من عناصر الجذب التي أعلت من شأن الكتاب، وخلقت تساؤلات تدفع الجميع للتحاور حولها، وهو ما ذكر من القراء والنقاد الذين اجتمعوا للحديث عنه في مقهى طبقات بجدة في 17 أبريل من العام 2025م، حين خلص الجميع إلى حاجة هذا المصنف الأدبي الجميل لجلسات نقاش أخرى، فالحديث لم ينتهِ رغم انقضاء الوقت المخصص للأمسية، وبالفعل لكم وددنا أن لو بقينا للحوار والنقاش حوله؛ والابتسامة لا تفارقنا، نزولًا عند طرافة المواقف المسرودة ووجدانيتها العالية، وبساطة وأريحية الكاتب المتجسدة بين دفتي الكتاب.
ونزولًا عند رغبتي في الابتعاد عن الأمور الفنية ابتداءً، لاستظهار القيمة الحقيقية للمصنف من زاوية التلقي الانطباعي، فإن هذا الكتاب يحمل أبعادًا إثرائية متفقًا عليها، خلاف المتعة القرائية التي تدفعك للانكباب على صفحاته حتى الانتهاء منه، رغم غياب الإثارة والتشويق والتساؤلات الملحة، وذكاء النصوص التي قد يُلْجَــأُ إليها لاجتذاب القارئ، فالتعلق هنا وجداني يخلق رابطة حميمية، تربطك بالسرد السيري وتقحمك في ثناياه، وتدفعك للمتابعة من باب الاستمتاع بالبساطة التي تنطوي عليها حياة السارد. وإحقاقًا للحق؛ فإن الإمساك بالقارئ ودفعه للمتابعة مهما كانت وسيلتها يعد شرطًا أساسًا في الكتابة الأدبية بكل أجناسها وتفرعاتها، مع أهمية بقية العناصر الأخرى - التي لا يكون العمل الأدبي إلا بها- كاللغة الأدبية التي يُقبل منها ما توسط وأتى بالحد الأدنى، وكانت المفردات والأسلوب الكتابي بالفعل كذلك في هذا المصنف، حيث إن لغتَه بيضاء يقبلها القارئ العادي والنخبوي ولا يفتن بها، أي أنها حيدت نظرتَنا لهذا المصنف، وإن أُخذ عليها تفاوتها بين القوة والضعف وإظهارها أزمنة كتابية مختلفة أو مراجعات وتدقيق متباين.
وقيمة أخرى يمكننا الوقوفُ عندها، إذا ما نظرنا للكتاب كذاكرة مكانية وزمانية، وهو للحق قد أتى على ذكر الأمكنة بطريقة غاية في الجمال والروعة، وهو يأخذ بأيدينا نحو مدينة «الباحة» وقرية «الأطاولة»، ويوقفنا على تفصيلات كبيرة ترتبط بالزمن الحاضر والماضي، خلاف إتيانه على أمكنة أخرى داخل المملكة، كمدن «سكاكا الجوف»، و»الليث»، و»جدة»، أو خارج المملكة، كماليزيا، وسيريلانكا، بمدنهما المتعددة، وكذلك جزيرة بالي بإندونيسيا، ومدينة «الجَدِيدَةُ» في المغرب، و»صنعاء» اليمن، أشارت إليها السردية بمساحات سرد مختلفة وصلت مع ماليزيا إلى ست عشرة صفحة، وهي الأطوال من بينها، وخلال هذا المرور المكاني الجميل، استحضرت أيضًا أزمنة معينة واكبت الحدث ومُنحت المساحة السردية التي تستحقها، وبالتالي عُدَّ هذا المصنفُ الأدبي قيمة كبيرة، وشك َّل إضافة معرفية معينة ينبغي تلمُّسُها في قراءاتنا المختلفة رغم النواقص الفنية.
ولم يكن المكان والزمان هما المعنيَّان فقط بهذا السرد الجميل، فهناك أيضًا تفصيلات إنسانية مهمة، شكلت قيمة إضافية تستوقفنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، عند حديث المؤلف عن مرحلة الطفولة والشباب، التي عاش أغلبَها في قرية «الأطاولة» واستكملها في مدينة «جدة»، بعد انتقاله للدراسة في معهد المعلمين الثانوي وانخراطه في السلك التعليمي لاحقًا، ومروره الكبير على حكايته مع والدته التي لم يغب ذكرُها في كل فصول الكتاب، ولقد أتى في هذه الجزئية الثرية على ذكر العادات والتقاليد المجتمعية المواكبة لتلك الحقبة المهمة من تاريخ الجزيرة العربية الإنساني، وفصل كثيرًا فيها، ويبدو أنه استمد عنوان الكتاب (العصفور الحافي) منها ـ كما شرح وبين في الاستهلال ـ وكذلك في صفحة 42 من خلال فصل عنونه بـ «العصفور يلامس حصن الجن»، فهو بالفعل ـ حسب وصفه ـ شابه العصفور في ضعفه وقلة حيلته وحركته الدؤوبة واعتماده على نفسه في تحقيق ذاته، والتفاوت الذي عاشه في رحلته الحياتية بين الغنى والفقر والضعف والقوة، ونجاحه في تجاوز كل المعوقات والمواقف الصعبة وإن لم يكن كذلك في مجمل السيرة، وفي كل الأحوال اجتهد الكاتب في إيصال هذه المعاني التي يحتملها العنوان من خلال سرده السيري، ولعله وفق في اختياره إذا ما نظرنا إليه من الناحية اللغوية الدلالية، منسجمًا مع خبراته الصحفية التي تولي العناوين أهمية كبيرة، وقد ذكر ذلك صراحة في ص143 في قوله: «وقد كنت أعكف مرارًا وتكرارًا على قراءة العناوين والمقدمة التي كتبها رئيسنا ـ بعد النشر ـ لي ولغيري، لأفيد منها وأتعلم من أسلوبه وروعة احترافيته» (انتهى حديثه). وقد لا يكون العنوان بتلك القيمة إذا ما ربطناه بالسيرة الموصوفة إذ إنها - في ظني - لم تكن بتلك الصعوبة وكانت حياة عادية مر بها أغلب أبناء ذلك الجيل، خاصة سكان القرى الجبلية في جنوب المملكة، فأتى وصفها متجاوزًا لحقيقتها.
وهناك قيمة أخرى نلمسها في البعد الشعوري والحالة الوجدانية الكبيرة التي نجح الكتاب في إشاعتها في أجواء التلقي، بحيث تظهر ابتسامة الرضا أثناء القراءة وتشعر بالحالة الوجدانية التي عاشها الكاتب في زمن الحدث وزمن السرد، وتنعكس هذه الحالة الشعورية على تلقيك للحكايات المروية، وعزز من هذه القيمة الوجدانية بساطةُ اللغةِ وقربُها من القارئ ومباشرتُها واتكاؤها كثيرًا على المفردات العامية.
وإذا ما تجاوزنا عناصر الجذب التي لا يمكن لأي منصف إهمالها وقد يكتفي بها كثيرون من دون التطرق لمفاصل أخرى، فإن هذا الكتاب - إذا ما نظرنا إليه كمصنف سيري - يأخذنا قسرا للحديث عن بعض الأسس الفنية، التي لا ينبغي إهمالها في مراجعة نقدية كهذه تتناول العمل من كافة جوانبه وإن جنحت للانطباعية، ولعلي أعتمد في هذا الطرح المتوازن بين السلبيات والايجابيات على ما قاله المؤلف نفسُه في صفحة 141 في معرِض حديثه عن تجربته الصحفية وهو يصف ردة فعله بعد تعرضه لموقف صعب ألقيت فيه تجربتُه المقاليةُ الأولى في سلة المهملات خمس مرات، قبل نجاحه في التجربة السادسة من قبل الصحفي المصري «صابر مكاوي» الذي زامله وتعلم كثيرًا منه، يقول الزهراني: «تعلمتُ وعرفت أن المجاملة و»الطبطبة» لن تصنع مني كاتبًا، ثم صرت لاحقًا أنظر بتعجب إلى زملاء لنا جاءوا بعدنا بسنوات، فنجد الواحد منهم يتأفف من أقل ملاحظة نقدمها له حول مقاله» (انتهى حديثه). والشاهد هنا أن الكاتب بهذه العبارات يطلق أيدينا للحديث بتجرد عن كتابه - ما له وما عليه - ويعدنا بقبول النقد الهادف البناء المتوازن، طالما كان هذا ديدنه في تجربته الصحفية الثرية التي أسهمت في إخراج هذا المصنف الجميل.
وإذا ما انتقلنا للحديث عن البعد الفني المرتبط بتجنيس الكتاب ضمن أدب السِّيَر نجد أنه وقع في عدة إشكاليات من وجهة نظري المتواضعة، منها خلطه بين نوعين من الأدب وإتيانه بنوع ثالث يعد مزيجًا غير واضح المعالم خلط فيه بين القصة القصيرة بقواعد كتابتها المعروفة، والحكاية السيرية التي لها هي الأخرى ضوابط كتابية ينبغي الالتزام بها، وبالتالي ضاع السرد الفني بينهما فأشكل علينا التعاطي مع السردية كقصة تخيلية أو سيرة واقعية، وفي منعطف آخر نجد الخلط بين السيرة الذاتية (المهنية) وأدب الرحلات، ولقد أتى الكتاب بكل ذلك وترك لنا حرية قبوله أو رفضه، وإن حاول المكر بنا والتحكم في قراراتنا، اعتمادًا على المتعة التي قد تجعلنا لا نلتفت كثيرًا لهذا الخلط رغم محوريته وتأثيره على القيمة الفنية للمصنف، فقد يأتي من يقول إن هذا الاختلال لم يقلل من قيمة الكتاب الحكائية بالنظر للمتعة المتحققة، وقدرته على تنشيط الذاكرة والدعوة للتأمل، وأخذ القارئ للأبعاد السيرية المستهدفة، وهو ما حدث معي بالفعل إذ لم التفت في قراءتي الأولى لهذا الخلط، وعدت إليه عند شروعي في تفكيك النص والنظر إليه من زاوية نقدية.
إن هذه التوقفات والمراجعات الفنية تدعونا أيضًا للإنكار على الكاتب إقحامه الآخرين في الحوارات وحضورهم في التفصيلات المسرودة، كما ننكر عليه استدعاء ووصف مواقف غير مرصودة من قبله والحديث عنها وكأنها وقعت أمامه، وانتحال شخصية الراوي أو الواصف العليم، وقد وجدنا ذلك على سبيل المثال لا الحصر في (صفحة 15) يقول الكاتب: «سرى النبأ متأخرًا في بعض جهات بلدتنا، أيام كان التواصل ضعيفًا، وبلغ صويحبات أمي، ظللن يرمقنها من بعيد، عندما كانت تكنس الساحة بمقشتها، أو عائدة من البئر بقربتها، تجمَّعن ذات عصرية عند فوهة بيت أم أحمد، ..» وهكذا نجد أن الوصف المذكور في هذه الجزئية وقد تكرر بنفس الأسلوب في عدة مواضع من الكتاب، لا يمكن قبوله في الأدب السيري، بل إنه لا يقبل حتى في السرد التخيلي عند استخدام ضمير المتكلم، فالواصف المتكلم ـ كما ظهر في النص ـ لا يعيش الحدث الذي يصفه، وبالتالي لا يقبل مثل هذا الوصف إلا مع الراوي العليم الذي لا حضور له مطلقًا في السير الذاتية ويقبل فقط في السير الغيرية باشتراطات معينة لا تنسجم مع هذا الموقف المرصود، وبالتالي كان ذلك ضعفًا فنيًا يستدعي المراجعة، وإن أمكنه ذكره ولكن بطريقة خبرية تشير إلى تلقيه له مشافهة ممن عاصروه في حال أراد نشرَه.
نجد كذلك إخلالًا ببقية العناصر التخيلية التي تبنى عليها القصة القصيرة والرواية، ويعد وجودها في السيرة الذاتية أو الغيرية عيبًا جوهريًا قد ينسف العمل، وكان الناقد الجميل الدكتور سلطان العيسي قد تناول في ورقته التي قُدمت في تلك الأمسية، الأخيلة وعلاقتها بالواقع، وفصل كثيرًا في حديثه عن تعالقات الخيال بالسير الذاتية من خلال أنواعه الأربعة، وكانت بالفعل ورقة غاية في الجمال والقوة وتعد ركيزة أساسية لفهم العلاقة المحورية والمهمة بين أدب السِّيَرة الواقعي والخيال، والطريقة المثلى لتقنين الخيال عند كتابة السيرة، مبينًا من خلالها أن الخيال لا ينفصل عن السيرة بالمطلق كما يُعتقد، فقد نجده في المرويات المتباعدة تاريخيًا بين زمن الوقائع وزمن التدوين، وهو ما يقحم الخيال في الكتابة الواقعية بطريقة غير مباشرة بسبب النقل غير الدقيق للوقائع المدونة، وبالتالي تغلغله بنسب معينة في هذا النوع من السرد، وأتى أيضًا على بقية أنواع الأخيلة التي تتداخل مع الكتابة السردية الواقعية بعلم أو بجهل من الكاتب، ونجدها أيضًا في انتقائية السيرة من بين الواقع المرجعي وعدم سرده كاملًا، وتعد هذه الانتقائية تخيلية في نظر البعض طالما أنها لم تسرد كامل الواقع كما هو بدون تدخل، ونجدها أيضًا في الخيال الوجداني عندما تتسبب مشاعر الراوي في تخييل السرد وابتعاده عن الصدق والدقة المطلوبة، وكذلك اللغوي ويتعلق بعجز اللغة عن وصف الحدث الواقعي فيتم تكييف الوقائع بما يتلاءم مع اللغة.
ولقد أجاد الدكتور سلطان في تفصيل الأخيلة وارتباطها المباشر وغير المباشر بالكتابة السيرية وربطها بالنقاد الذين قالوا بها.. وفي كل الأحوال لا أريد هنا نقلَ ما قاله بالكامل كونها ورقة ثرية تستحق قراءتها كاملة بتوقيع صاحبها، ولعله يقوم بنشرها لاحقًا للاستفادة منها فهي تعد ضمن اشتراطات المعرفة الأساسية التي تستلزمها كتاباتنا السيرية، والمقصود هنا أن الكتاب هو من جرنا للحديث عن هذه النظريات الأربع بسبب الخلط المرصود بين الواقع والمتخيل، ودفع الدكتور سلطان لهذا الحديث القيم وإن بطريقة غير مباشرة مداراة للمؤلف.
إن هذا الإسراف في الأخيلة وتوظيفها المباشر غير الجيد يمكن رصده في الحوارات المدونة بين الشخصية الساردة الواقعية والأشخاص الواقعيين الذين يستحضرهم المصنف بأسمائهم الصريحة، وهو ما لا يتلاءم مع أدب السير الذي يروى عادة بضمير المتكلم ولا يسمح للمكونات الإنسانية المصاحبة للسارد بالتداخل في الحوار إلا بوصف من الراوي المتكلم، ولا يتيح لها استلام دفة الحكي كما يحدث في الأدب التخييلي، على اعتبار أن هناك فاصلًا زمنيًا كبيرًا جدًا بين زمن الأحداث المروية أو الوقائع المرجعية وزمن تدوينها، وارتباط النقل بالراوي فقط، وللدلالة على ذلك نذهب لأحد هذه الحوارات المدونة في صفحة 41 يقول الزهراني: «ووالدتي توصي والدي بهمس مرتفع:
ـ انتبه للولد؟.. «تراه شقي» كما تعرف..
ـ لا مشكلة توكلي على الله؟
انطلقنا نحن الاثنين، والدي يمسك بمعصم يدي خوفًا عليَّ، ..» (انتهى حديثه).
وهكذا نجد أن الحوار هنا يعد خللًا فنيًا لا يمكن قبوله في الكتابة السيرية بالمطلق، ولا نجده إلا في القصة القصيرة والرواية، وكان باستطاعة الكاتب نقل مثل هذه الحوارات موصوفة بطريقة إخبارية كحوارات حدثت أمام الكاتب وينقلها لنا من دون الخوض في تفاصيلها الدقيقة، بل إن السيرة الذاتية لا تحبذ حتى «المونولوجات» الداخلية أو حديث النفس، فهي - أي السيرة - أدب وصفي بامتيا ز يذهب باتجاه وصف الحوادث فقط وأمكنتها وأزمنتها وتعالقاتها الإنسانية، وقد وقعت السردية أيضًا في هذا الأمر المخل نجده على سبيل المثال في ص26 يقول الزهراني: «ـ ما المشكلة بالضبط؟!... (سألت نفسي)
ـ أهو قدري الذي يقودني ولا أقوده؟!
ـ أهي طفرة أحلام غير واعية؟!
ـ أهو خذلان وخيبة...؟!
لا أدري، كل ما في الأمر...» (انتهى حديثه).
وهكذا نجد أيضًا أن الحوار مع النفس بهذه الطريقة لا يتلاءم مع أحداث موصوفة قبل عقود من الزمن ولا نجدها إلا في الأعمال التخيلية التي يمكننا التحكم في زمن روايتها وكذلك زمن حدوثها، وحتى لو افترضنا التسجيل الآني كمذكرات ونشرها لاحقًا فهي لا تكتب على هذا النحو تماهيًا مع اشتراطات الجنس الأدبي، وإنما توصف بشكل عام كما ذكرنا في الحوارات السابقة، فأدب السير يدون بطريقة وصفية للوقائع والحوارات بعد حدوثها وانقضائها ولا ينقل الوقائع كحدث آني.
ومما لا يقبل أيضًا ووقع فيه الكتاب، الإسراف في التأويل والشرح واستلهام العبر، مع أن الأفضل ترك كل ذلك للقارئ الحصيف اعتمادًا على أن السيرة تصف الأحداث المرجعية فقط ولا تنتقي وتوظف وتقنع وتعظ، وفي هذه الجزئية هناك تفصيلات كثيرة إذ يحق للكاتب التعليق عليها وبيان وجهة نظره في زمن الحدث أو زمن السرد إذا ما دعت الحاجة السردية باشتراط الوضوح والمباشرة والاختزال والتكثيف، وهو ما لم يقم به الكاتب وحدث الخلط هنا بين الكتابة السيرية والكتابة المقالية، ولكن كما أسلفت فإن هذا الخلط لم يؤثر على تلقي العمل كذائقة قرائية وهو ما دفعني للقول إن الكاتب بطريقة أو بأخرى خلق هذه المساحة الحوارية بين القواعد الفنية المهمشة وبين القيمة القرائية المتحققة رغم هذا التهميش مما يعلي من قيمته التعلُّمية.
إن ما سبق لا يغيب التزام الكتاب بأمور فنية تحققت بالفعل في مواقع أخرى، كما حدث مع الفصل الثالث المعني بالسيرة الذاتية المهنية، وصور من خلاله الكاتب تجربته الصحفية المميزة بكل ما فيها من مفارقات طريفة في معظمها وثرية في أبعادها المعرفية، وهي الفترة التي قضاها مراسلًا صحفيًا لمجلة اقرأ ذائعة الصيت، والعلاقة الكبيرة التي جمعته برئيسها التاريخي الدكتور عبدالله مناع يرحمه الله، وكان الكاتب قد أجاد بالفعل في تدوين سيرته المهنية وتخلص تقريبًا من كل الأمور الفنية المقلقة التي وقفنا عليها في الفصلين الأول والثاني، فلم نجد تلك الحوارات المتجاوزة للوصف السيري إلا فيما ندر، وكانت الحكايات موجزة ومكثفة وعميقة، ورسائلها ومغازيها طيِّعة، يمكن مطالعتها والوقوف على كل تفصيلاتها بطريقة مباشرة وغير مباشرة دون إخلال ظاهر، عكس ما كان يحدث في الجزأين الأول والثاني اللذين لم يخلوا من حالة إرباك سردي امتد على كامل المساحة، ويظهر لي أن التباعد الزمني وكذلك القيمة المتفاوتة لكل مرحلة من هذه المراحل، تسبب في ذلك الإخلال، خلاف تردد الكاتب بين تدوينها كرواية أو استجابته للنصائح التي وجهت إليه وأشارت عليه بتدوينها كسيرة ذاتية، وهو القرار الأصوب في ظني، لكنه فيما بدا لي نسي تخليصها من الخيالات المدونة سابقًا وقت رغبته في نشرها كرواية، أو لم يعد كتابتها كسيرة وصفية، وهي الخطوة التي كان عليه اتخاذها، فأتت الحكايات الشذرية على هيئة مزيج غير متجانس من الواقع والأخيلة مما أفسد السرد السيري.
أُخذ على العمل أيضًا تضمينه فقرات تنتسب لأدب الرحلات، ولا تنسجم مع الكتابة السيرية المعتادة فكان حضورها غير مبرر وسببت شيئًا من الإرباك الفني، أقول ذلك رغم أنها على مستوى الذائقة كانت جميلة ومثرية ومشوقة ولا يمل من قراءتها، ورغم إيماني أيضًا بإمكانية إدراج أدب الرحلات ضمن أدب السيرة، ولكن باشتراطات معينة، وبمواصفات محددة تلائم بينهما، وهو ما لم يتحقق في هذا الكتاب إذ إن الكاتب دونها بعيدًا عن قيمتها السيرية وجعلها قاصرًة على وصف الحدث بإيجاز شديد من دون استحضار صاحب السيرة، واستظهار قيمته الوجودية ومبررات إلحاق تقارير رحلاته بسيرته المدونة، واشتغل فقط على وصف المكان، في وقت كان عليه إظهار نفسه بشكل أكبر طالما وضعها ضمن سيرته، وكذلك اللعب على البعد الإنساني المرتبط بالأمكنة المزارة، وهو مالم يحدث، حيث غيب وصف الحياة الإنسانية بشكل شبه مطلق وتم تقليص المساحة الإنسانية، والاستعاضة عنها بإظهار المكان بتفصيلاته الدقيقة، وكان حضور الإنسان خجولًا جدًا في بعض المواقف، ودون تأثير يستدعي هذا الحضور، وبالتالي شاع النفور وعدم التجانس بين الرحلات الموصوفة مكانيًا؛ وبين السيرة الذاتية للكاتب، وجعلنا نشعر بالمحطة الأدبية المختلفة المعنية بالرحلات، - وللحق - ينبغي القول إن هذه الجزئية من الكتاب يمكننا قبولها في سيرة الكاتب، إذا ما نظرنا إليها من زاوية السيرة المهنية التي دونها، وهي بالفعل أتت ضمن هذا الفصل الكبير، الذي تعلق بمسيرة الكاتب الصحفية واحتل مائة وتسعًا وستين صفحة من مساحة السرد، أي تخطى المنتصف، وربما تكون هذه ملاحظة أخرى فالتوازن بين المراحل مطلب أيضًا، وعلى أية حال طالما دونت كانت بحاجة فقط لاستظهار القيمة الصحفية للرحلات وربطها بسيرة الكاتب المهنية بشكل أوضح من الجانب الإنساني، وإن وجدنا شيئًا من ذلك في رحلة اليمن التي تخللها لقاء صحفي مع الشيخ بالأحمر، ولقاء عفوي جمع الكاتب بالرئيس اليمني على عبدالله صالح - يرحمهما الله - وعابها إتيانها على ذكرها في بضعة أسطر لا تحمل أي قيمة سيرية أو صحفية، فقط من باب الطرافة وخداعه لأصدقائه، بينما لم نجد أي ارتباطات صحفية أو حضورًا للذات الساردة بالشكل اللائق في بقية الرحلات، واقتصرت فقط على ذكر أسباب الرحلة كمشاركات رسمية لوفود المملكة في اجتماعات قارية ودولية، وبالتالي فإن إضافتها لأدب الرحلات أظهرُ بكثير من تناولها في أدب السيرةوهي المعضلة التي تكرر وقوع الكاتب فيها حتى إن القارئ يتسرب إليه إحساس بأن المؤلف إنما أراد ملءَ مساحة الكتاب بقصاصات من تجربته الحياتية، بغض النظر عن وحدة موضوعها، وأعيد وأكرر؛ إن كل هذه الإشكاليات يمكن تلافيها بإضافات بسيطة وشيء من الحذف الإبداعي ليستقيم الكتاب وتتوحد موضوعاته ومنهجيته، وبالتالي تقترن النواحي الفنية بالذائقة القرائية.
وخلاصة القول: فإن للعصفور الحافي الفضلُ في تطرقنا لكثير من تفصيلات الأدب السيري وإشكالية كتابته بطريقة مخلة قد لا يدركها كثيرون ممن اقتحموا هذا المجال، قبل التسلح بالتأصيل المعرفي، وانشغلوا بتدوين تجاربهم الشخصية، ولم يلتفتوا إلى تجارب الآخرين المدونة.
وأنصح هنا بالاطلاع بشكل أكبر على نماذج إبداعية من الأجناس الأدبية المشابهة وسؤال أهل الذكر، طالما أردنا الكتابة في أحدها، وإن كان هذا المصنف الجميل قد قادنا أيضًا لمعرفة أن القيمة القرائية لا تعني بالضرورة الالتزام الفني والتقيد باشتراطات الأجناس الأدبية على مستوى التلقي العادي، وهو ما يجعلنا ننتهج منهج الكاتب، ونعتقد أننا قد نكون بحاجة إلى زاوية رؤية تحليلية مختلفة تواكب هذا النوع من الأدب، الذي يرتهن للذائقة بالدرجة الأولى، فنأتي بنقد مبتكر يسير في مراجعته من دون اصطحاب العناصر الفنية التي تفقدنا أحياناً هذه المتعة، ويمكن أن نطلق عليه وقتها مجازًا «النقد الحافي».