د. سفران بن سفر المقاطي
يمثِّل الابتعاث السعودي إلى الخارج إحدى أبرز المبادرات التي اعتمدتها المملكة العربية السعودية عبر تاريخها الحديث من أجل تحقيق التنمية البشرية المستدامة، وتعزيز القدرات الوطنية، وفتح نوافذ معرفية وثقافية على العالم، فمنذ إنشاء برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي عام 2005م، دخلت المملكة مرحلة جديدة في تطوير التعليم العالي، ومواجهة تحديات التحديث والتطوير الاقتصادي والاجتماعي، وأصبح البرنامج منذ ذلك الحين منصة رئيسية لاستثمار الطاقات الشبابية السعودية، وزيادة حضور المملكة على الساحة الدولية عبر تبادل ثقافي ومعرفي عميق وفعَّال. وبتحليل السياق التاريخي للابتعاث السعودي، نجد أن بدايات هذا المشروع تعود إلى مراحل مبكرة من تأسيس المملكة، وتحديدًا إلى عام 1927م، عندما أرسل الملك عبد العزيز - رحمه الله- بعثة تعليمية إلى الأزهر في مصر، ضمت (14) طالبًا، لدراسة العلوم الشرعية والقانونية والتربوية، وبذلك وضع الأساس لنهج المملكة في الاستفادة من التجارب التعليمية الخارجية. ولم يتوقف الأمر عند هذه المرحلة، بل توسع تدريجيًا مع مرور السنوات ليشمل دولاً أخرى مثل بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1947م، وجاء هذا التوسع في الابتعاث مدفوعًا بالحاجة الملحة إلى كوادر مؤهلة في مجالات الهندسة والطب والإدارة بعد اكتشاف النفط، مما جعل الابتعاث ضرورة اقتصادية واجتماعية، وليس مجرد خيار تعليمي.
ومع انطلاق برنامج خادم الحرمين الشريفين الطموح للابتعاث الخارجي عام 2005م، شهدت المملكة طفرة نوعية وكمية في أعداد المبتعثين، وتنوعًا في الوجهات والتخصصات، حيث بلغ عدد المبتعثين السعوديين حتى أواخر عام 2024م أكثر من 150 ألف طالب وطالبة، موزعين على ما يزيد عن 30 دولة، أبرزها الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا، ألمانيا، فرنسا، وإيرلندا، وتركزت تخصصاتهم في العلوم الطبية والهندسة والتقنية والقانون والعلوم الإنسانية وإدارة الأعمال، مما يشير إلى رؤية واضحة لدى المملكة في ربط مخرجات الابتعاث باحتياجات سوق العمل والتنمية الوطنية الشاملة.
وفي سياق تحليلي أعمق، نجد أن تجربة الابتعاث السعودي لا تقتصر على أبعادها التعليمية فقط، بل تتجاوزه إلى أبعاد ثقافية واجتماعية ذات أهمية قصوى، حيث يعيش الطلاب المبتعثون تجربة ثقافية واجتماعية فريدة من نوعها، تفتح أمامهم آفاقًا واسعة لفهم العالم، والتفاعل مع مجتمعات مختلفة، مما يعمق من قدرتهم على التفكير النقدي والتحليلي، ويعزِّز مهاراتهم الشخصية في التواصل الدولي والتكيّف مع المتغيّرات الثقافية والعمل الجماعي، وهو ما أكدته دراسات عديدة أجريت على المبتعثين السعوديين، ومع ذلك، فإن هذه التجربة الثرية لا تخلو من تحديات وصعوبات، على رأسها التكيّف مع اختلافات اللغة والعادات والتقاليد، وهو ما يشكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الطالب المبتعث على مرونة التفاعل مع البيئات الجديدة، وتجاوز الصدمات الثقافية وتحويلها إلى فرص للتعلّم والنضج الشخصي، وقد رصدت وسائل الإعلام عددًا من التجارب الفردية الناجحة التي توضح كيف استطاع الطلاب السعوديون تحويل هذه التحديات إلى نجاحات أكاديمية واجتماعية، مثل تجربة الطالب محمد العتيبي في اليابان الذي استفاد من ثقافة الالتزام والدقة اليابانية لتطوير مهاراته المهنية والشخصية، وكذلك تجربة فاطمة الغامدي في الولايات المتحدة التي ساهمت في تعريف زملائها الأمريكيين على الثقافة السعودية عبر فعاليات ثقافية متنوعة، وهو ما يعكس الدور المهم الذي يلعبه الطلاب في تعزيز التفاهم والتقارب بين الشعوب.
وكذلك، من الضروري الإشارة إلى الأهمية الكبرى التي يؤديها الابتعاث في تعزيز الهوية الوطنية، حيث تشير تجارب المبتعثين إلى أنهم يكتشفون هويتهم الوطنية بشكل أعمق أثناء وجودهم في الخارج، ويشعرون بالفخر والاعتزاز بتمثيل بلدهم ثقافيًا وحضاريًا، وهو ما يسهم في تقديم صورة إيجابية عن المملكة في أنحاء العالم، ويعمل على تغيير الصورة النمطية السائدة في بعض المجتمعات، كما أن الطلاب السعوديين في الخارج يمثِّلون سفراء غير رسميين للمملكة، من خلال ما يقومون به من أنشطة ثقافية واجتماعية. وتشير تجارب المبتعثين السعوديين في إيرلندا، على سبيل المثال، إلى هذا الدور المهم، إذ قدَّم الطلاب السعوديون هناك نماذج متميزة للتواصل الثقافي والاجتماعي، من خلال تنظيم فعاليات ثقافية، وعرض جوانب من التراث السعودي الأصيل مثل الأزياء التقليدية والفنون الشعبية، مما أسهم في تعزيز التفاهم بين الشعبين، وتقديم المملكة بصورة حضارية وجديدة للمجتمع الإيرلندي.
وختامًا، يمكن القول بأن تجربة الابتعاث السعودي تعد نموذجًا متميزًا لإستراتيجية وطنية طموحة تهدف إلى بناء جيل من الشباب السعودي القادر على مواجهة التحديات العالمية، مسلحًا بالعلم والمعرفة والمهارات الثقافية والاجتماعية المتقدِّمة. وبهذا يمكن النظر إلى الابتعاث كأداة لتعزيز التفاعل الحضاري وتبادل الأفكار، حيث عاش الطلاب المبتعثون السعوديون تجربة فريدة تجعلهم يتفاعلون مع ثقافات مختلفة ويكتسبون منظورات جديدة، مما يعزِّز قدرتهم على التفكير النقدي. هذا النوع من التعليم يساهم في تكوين قادة مستقبليين قادرين على التعامل مع القضايا العالمية بمرونة وإبداع. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يسهم الابتعاث في تغيير الصورة النمطية عن المملكة في الخارج. وبهذا فإن الطلاب السعوديين في الخارج يعملون كسفراء ثقافيين، يعرضون صورة حضارية ومتقدِّمة عن بلادهم. هذه الجهود تعزِّز الفهم المتبادل وتبني جسوراً من التعاون بين المجتمعات المختلفة، مما يسهم في تحقيق السلام والتفاهم الدولي. وبالنظر إلى تجارب المبتعثين في دول مثل إيرلندا، يتضح أن هناك تأثيرات إيجابية ملموسة على مستوى الأفراد والمجتمعات. تظهر الدراسات أن الطلاب يعودون بمهارات علمية وثقافية وإدارية متقدة تمكنهم إدارة وتطوير مشروعات التنمية السعودية والمساهمة في تحقيق رؤية المملكة الطموحة 2030م لمستقبل واعد للمملكة لحياة أكثر جودة وازدهارًا.